منذ أنِ استلقىَ الإنسانُ بين دفَّتَيْ كتاب الأرض ووجدَ نفسَه ورقة بيضاء يأتي بها القدَرُ من غابة الغيوب ويستخدمها مسوّدةً لكتابة الحياة ثمّ يرميها في سلال مهملاته الأبدية المُسَمَّاة مجازا بالقبور.. منذ ذلك الحين، والشعر يمثّل القلق الوجوديّ الممزوج بِدِراية الإنسان وجهله في آنٍ واحد كلما صفعتْه الأسئلة: لماذا نبدأ بياضا ناصعا وننتهي خربشةً سوداء؟ من يهدهد حشرجات الورقة وهي تلفظ سطرها الأخير بعد طول عذاب؟ ماذا وراء سلال المهملات تلك؟ لم تنتهِ كلمات هذه الأسئلة عند حدودها اللغويّة والمعرفيّة، وإنّما واصلتْ امتداداتها في الشرايين عبر الامتزاج بالمشاعر حتى مزّقت الأحشاء وبَعْثَرَتْها مقاطعَ غنائيّة حارّة.. فكان الشعر. وحينما كان الشعرُ، وَجَدَ الكونَ على رحابته بيئةً مضيافةً له فابتدأ رحلة البحث عن ذاته في كلّ مفردات الطبيعة وعناوينها محاولا أن يجمع القِطَعَ المتناثرة من أحجيته عبر إقامة حِواراته الأولى مع الأشياء من حوله واستبطان مكنوناتها. ما الذي بقيَ من الشعر الآن.. ونحن نسمع نحيب الأبجديّة يتعالى في عالمٍ يوظّف العلم لإبادة الشعر من الحياة..كان الشعرُ عِلّةَ وجود وليس ترفاً لغويّا يزخرف الحياة بالحكايا الأسطوريّة.. وأوّل ما صنعه هو التحرّش بالغيب ومغازلة الأسرار على ضفاف الما وراء في محاولة للتوحّد بالمطلق وإعادة صياغة الأقدار. أن تكون شاعرا في ظلّ هذا القلق الوجوديّ يعني أن يتحوّل وزنُكَ بأكمله إلى كتلة كيلوغرامات من الحيرة والشكّ والترصّد والمعاناة والهواجس، وأن تكون عناصرك كلّها مشدودة في تكوينها إلى أمشاج التوريات وأوردة الاستعارات وشرايين التشابيه. أن تكون شاعرا يعني أن تزوِّج أقدامك للطريق زواجا شرعيًّا كي تجيء خطوتك قصيدة بنت حلال. ولكن يبقى السؤال الذي يشعل الروح على ورقته علامةَ استفهام حارقة: ما الذي بقيَ من الشعر الآن.. ونحن نسمع نحيب الأبجديّة يتعالى في عالمٍ يوظّف العلم لإبادة الشعر من الحياة.. عالم يحتاج إلى أسلحة للسلام أكثر من أسلحة للحرب.. عالم تقاس درجة حرارته بحداثة صناعاته العسكرية بدلا من دفء المشاعر الإنسانية.. عالم تأخذه المراثي في قلب هذا التيه العظيم إلى هاوية الفقد.. عالم حَرَفَتْهُ التكنولوجيا عن أمنية الشاعر الألماني (هوردلين) في أن تكون إقامة البشريّة على الأرض إقامةً شعريّة كيلا تتخشّب المشاعر. حَسْبُ الشعر انكسارا في يومه العالمي أن يرى العالم في حاجة إلى سُلّمٍ من الجثث للوصول إلى برج الحكمة والتآلف مع الحَمَامِ هناك.. وحسبه انكسارا أيضا أن يرى أنّ منجلا واحدا يكفي لاقتطاف الحصاد الخيِّر من كلّ الأرض، بينما ألفُ منجلٍ لا تكفي لإزاحة الأعشاب الضارّة من مترٍ مربّع من الأرض. [email protected]