وقصائدي ملكاتُ نَحْلٍ لم تلدْ في العُمْرِ إلا الشَّهْد َوالأحلاما فإذا تَوَتَّرَتِ الهمومُ بخاطري دَوْزَنْتُها فتَحوَّلَتْ أنغاما لا تزال الأبجدية تنثر نحيبها الأزلي حزنا على الإنسان منذ آدمه الأوَّل حتى آدمه الأخير المخبوء في رحم الغيب. تفجَّرتْ ينابيعُ عديدة من الحبر الحزين وامتلأت جرار كثيرة بالأنات والصرخات، ولا تزال معاناة الكائن البشري هي ذات المعاناة وجوهرها هو الجوهر ذاته مهما اختلفت المظاهر، ومازال الشعر هو المترجم الأبلغ لجوهر هذه المعاناة. لذلك قد يتلاقى الشعراء على ضفاف الألم ذاتها، ولكن تبقى لكلّ شاعر طريقته في فلسفة ذلك الألم وإعادة صياغته في قالبه الخاص، ثمَّ تصفيته في مصفاة الروح وإعادته إلى الناس في شكل مفعم بالأناقة البريئة، الأمر الذي يجعل هذا الألم المُدَوزَنَ بالنغم قادرا على تخفيف ذلك الألم المُعاش. هذا يعني أنَّ الألمَ واحدٌ - قديما وحديثا - على المستوى الإنساني، ولكن ثمَّة اكتشافات جديدة على المستوى اللغوي الجمالي يقوم بها الشعر لتخفيف الوطأة وامتصاص الحِدَّة. بناءً على ما تقدَّم فإنَّ القصيدة ليست صورة فوتواغرافية من الواقع وإنما صورة جماليَّة منه تعيش في عالمها الخاصّ بها. والمبدعون هم أبناء الوجع منذ الكتابة حتى آخر قطرةِ حبر; لذلك، لا يمكن للمبدع إلا أن يكون مخلصا لأبيه .. الأكثر من ذلك هو أنّ الإنسان دائما ما يتعلَّم ما يناسبُهُ في الحياة عبر الوجع الذي يعانيه. على صعيد آخر من علاقة القصيدة بالمعاناة، لا بدَّ من التوضيح أنَّ للألم طاقة إبداعية كبرى تمثِّل المعادل الفني لطاقته المادية، فهو يحمل طاقةً سلبيةً في علاقته بالجسد وطاقةً إيجابيةً في علاقته باللغة. كما أنَّ كلّ تاريخ الإنسان الفلسفي والشعري انحدر من جبال الوجع الإنساني الذي مازال يشكّل أهمّ التضاريس على الخارطة البشرية النفسية والجسدية. والمبدعون هم أبناء الوجع منذ الكتابة حتى آخر قطرةِ حبر; لذلك، لا يمكن للمبدع إلا أن يكون مخلصا لأبيه. الأكثر من ذلك هو أنّ الإنسان دائما ما يتعلَّم ما يناسبُهُ في الحياة عبر الوجع الذي يعانيه، ومن هنا نكتشف مع كلّ حالةِ وجعٍ حالةَ مخاضٍ لحكمةٍ إنسانية أو قصيدةِ شعر أو قصّةٍ أو أيّ شكل من أشكال الفنون التي تتمخَّض عنها العذابات. ولكن ما دمنا نتحدث هنا عن الشعر، يقفز في وجهنا سؤال هامّ: هل القصيدة هي هذا الوجع أو هذا العذاب أو هذا الألم؟ والجواب: لا. القصيدة هي عمليَّة استقراء المعاناة البشرية عبر اللغة بكلّ ما تحمله من عناصرها الفنية. والقدرة على هذا النوع من الاستقراءات هي الموهبة الإبداعية التي يتمتَّع بها إنسان دون إنسان آخر.