ظهر تقرير مؤشر "مدركات الفساد" الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية بنتائج مفرحة لكل من الإمارات وقطر، على وجه الخصوص، لحصولهما على 68% من نقاط الخلو من الفساد (أي ثلثي سجلهما الذي تابعته منظمة الشفافية الدولية خالٍ من الفساد)، وكذلك تقدمت الإمارات في الترتيب العالمي للدول الأقل فساداً من المرتبة 28 في سنة 2011م إلى المرتبة 27 في سنة 2012م؛ وخلافاً لذلك تأخر ترتيب قطر من المرتبة 22 في سنة 2011م إلى المرتبة 27 في سنة 2012م (أي أصبحت مساوية للإمارات في الترتيب، ونسبة الخلو من الفساد). وإذا نظرنا إلى تقرير هذه المنظمة الدولية، أو ما يخص الدول العربية منها على وجه الخصوص؛ نجد أن أربع دول عربية فقط هي التي حققت درجة النجاح، إذا عددنا نصف النسبة هي نسبة النجاح. وهي: الإمارات 68%، قطر 68%، البحرين 56%، الأردن 51%. أما الراسبون من الدول العربية في اختبار منظمة الشفافية الدولية، فهم بقية الدول العربية بدءاً من عُمان مروراً بالكويت والسعودية، وانتهاء بالسودان والصومال. إن هناك عوامل مساعدة في تهيئة بيئة الفساد وتفاقمه، كما توجد عوامل بنيوية تصنع الفساد وتكوّن أساس استمراره. فإذا كانت المنظمة قد ربطت بين الفقر والصراع وانتشار مستويات الفساد، فإن اللافت في التقرير - حسب صحيفة القبس الكويتية - تراجع جميع الدول الخليجية باستثناء الإمارات التي ارتقت درجة في الترتيب العالمي. ومع كون السعودية واحدة من الدول التي انضمت إلى قائمة العشرين مؤخراً، إلا أنها لم تحقق في نسبة نقائها من سجل الفساد سوى 44%؛ بمعنى أن 56% من مكونات المؤشر الخاص بالسعودية يعتريه الفساد. كما صعد ترتيبها بين الدول الموبوءة بالفساد إلى 66 في سنة 2012م بعد أن كان ترتيبها 57 في سنة 2011م. فما العوامل المؤدية بالدول إلى التدني في مؤشر مدركات الفساد، سواء في تقرير هذا العام، أو تقارير المنظمة الدولية سابقاً؟ حسب ما رأيت في حالات تأمل سابقة لتقارير هذه المنظمة، ومنظمات حقوق الإنسان أن هناك عوامل مساعدة في تهيئة بيئة الفساد وتفاقمه، كما توجد عوامل بنيوية تصنع الفساد وتكوّن أساس استمراره. ولدى تقصي كل من هذين الجانبين، وجدت أن العوامل البنيوية المؤسسة للفساد في مجملها ثقافية؛ أما العوامل المساعدة، فتنشأ عن سياسات داخلية، وتنظيمات تساعد في تهيئة الظروف الملائمة لازدهار بيئة الفساد، وقبوله بوصفه من مسلمات الأمور. وأول ما اكتشفته عاملاً بنيوياً أساسياً في تكوين الفساد الثقافي في البيئات العربية، أن قبوله يتناسب عكسياً مع وجوده؛ فكلما كانت مرتبة الشخص الفاسد أصغر، كان رفضه من المجتمع أقوى، وكشفه وطلب معاقبته أكثر. أما الشبكات الفاسدة المتنفذة داخلياً (أو داخلياً وخارجياً)، فتعليل المجتمع أنه أمر قدريّ لا قبل للمرء بصدده، وأن علينا التعامل مع الأمور كما هي، وليس كما نتمنى أن تكون. ويعقب ذلك غالباً بتطمين المحاور أن أولئك الفاسدين، لن ينجوا من العقاب الإلهي في الآخرة، كما أنهم قد تمحق بركة كسبهم، ويصيبهم القلق، أو الأمراض والبلوى في الدنيا. فمثل هذه الثقافة تصنع الفساد، وتقوي أسسه. كما تغري المتنفذين باستغلال هذا القبول، لتحقيق ما لا يحده من رفض أو محاكمة أو تصنيف إلا ما تمليه عليهم ضمائرهم. فإذا كانت المؤسسات والمسؤولون عنها لا تخضع للمساءلة، والإنفاق العام باب واسع للفساد المالي والإداري، فإن مجالات تكوّن العوامل البنيوية، التي تغذي الفساد تصبح خصبة، وظلالها وارفة. فإذا وجد فاسد واحد في موقع كبير، سيكون مجال تناسل الفساد في فروع ذلك الموقع واردة جداً؛ لأنه لا يستطيع منع من يطلع على حالات فساده من ممارسة الفعل نفسه. أما العوامل المساعدة، فهي السياسات الداخلية التي تحكم علاقات المؤسسات بمصادر التمويل ومصادر القرار. فعدم متابعة المسؤولين في قراراتهم المالية والإدارية مدعاة لانحراف المسؤول نحو مصلحة وأغراض شخصية؛ تكون مدخلاً من مداخل الفساد التي تتسع كما قلنا بأثر من العدوى، أو ضرورة السكوت عن الشركاء في العملية. والآن نقول: أين هيئة مكافحة الفساد، أو "نزاهة" من نشر مثل هذه المؤشرات؟ هذه المواد أتتها من منظمات دولية؛ فعليها أن تتعقب هذه الأوضاع، إلا إن كانت غير قادرة على فعل شيء. لكن حتى في مثل هذه الحال، عليها أن تقول ذلك لبراءة الذمة.