كان لنا قصب السبق في العلوم التي أسست لعلم العصر الحديث ووضعت أبجدياته، وكانت لنا ريادات في كثير من المجالات غير المكتشفة حتى الآن، ولعل كل ما لم يدّعيه أحد بأصالته في ابتكاره يمكن أن تكون مرجعيته للعرب والإسلام، وقد كان سلفنا ماهرين ومجيدين في كثير من مجالات الحياة ولكننا لم نعُد كذلك بعد أن فترت هِمّتنا وتواضعت عزيمتنا وتراجعت قدرتنا على الاستكشاف والابتكار، ولن أفاجأ مطلقًا إذا ثبت مستقبلًا أن أصل كثير من الأشياء عربية أو إسلامية. آخر ما وقفت عليه أن التسويق الحديث والإعلانات التجارية التي تقوم على رسالة إعلانية محفزة للشراء وإظهار قيمة المنتجات كانت بلسان عربي مبين وضع أصول التسويق والرسالة الإعلانية المباشرة التي تحقق أهداف البائع والمنتج، فقد فعل ذلك الشاعر (الدارمي) الذي عاش في العصر الأموي الأول، وهو أحد الشعراء والمغنين الظرفاء في الحجاز، وكان (يتغزل) بالنساء الجميلات، إلا أنه عندما تقدّم به العمر ترك نظم الشعر والغناء وتنسك وأصبح متنقلًا بين مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة للعبادة.. يجب أن نحاسب أنفسنا ونثق فيها، فذلك أول الطريق الى استعادة ما هو أصيل فينا ويُعيدنا الى الخط الأول، حيث كان سلفنا الذي لم يتلاقح أكثر منا مع الآخرين، ومع ذلك أبدع وأنجز وأنتج أفضل الأشياء. وحدث أن زار المدينةالمنورة والتقى بأحد أصدقائه من أهل الكوفة بالعراق ويعمل تاجرًا، وكان من ضمن تجارته (خُمر عراقية) بضم الخاء ، فباع صديقه جميع الألوان من تلك الخمر ما عدا اللون الأسود، فشكا لصديقه الدارمي عدم بيعه اللون الأسود، فما كان منه إلا أن نظم بيتين من الشعر وتغنى بهما مغنيان بالمدينة مطلعهما «قل للمليحة في الخمار الأسود..» فلم تبق مليحة إلا واشترت خمارًا أسود لها واستمر ذلك الى يومنا هذا. إذن وصلت الرسالة الإعلانية وحققت مبتغاها الذي استمر طوال هذه القرون مما يؤكد أن الإعلان التجاري وإن استخدم الشعر مرجعيته عربية، وذلك من حقوقنا التاريخية التي تؤكد ما نمتلكه من قدراتٍ في شتى المجالات، ولأن الشيء بالشيء يُذكر فقد قيل إن الشيخ سلمان العودة نجح في الحج الماضي في تسويق رسالة دعوية باستغلال التقنيات العصرية في التواصل مع محبيه، حيث أخذ يبث تحرّكاته في مكةالمكرمة على موقعه في الفيس بوك وتويتر، وقد تبسّط الشيخ العودة في دعوته إلى حد ركوب «دباب»، وتلك رسالة دعوية في الحج كان من المهم أن تصل للعالمين حتى أن صحيفة الواشنطن بوست نشرت صورة العودة وهو يركب الدباب ما يعني أن الدعوة ليست في المنابر وحسب وإنما تحتاج مثل هذا الجهد الذي وإن كان تسويقيًّا لرسالة دينية إلا أن الحج يحتمل بمنافعه مثل هذا السلوك الدعوي الذي يبيع تجارة لله عائدها الأكبر الأجر والمثوبة في الدارين للبائع والمشتري.. ومثل تلك الرسائل الإعلانية مؤشر إضافي على تفرّدنا وقيمتنا التي ينبغي أن نستعيدها من داخل أنفسنا وأن ننهض بفكرنا لما هو أكثر من التقليد والمحاكاة والذهاب بعيدًا في عُمق الابتكار والإبداع، فبداخل كثيرين منا (شيخ عودة) و(شاعر دارمي) يمكن أن يقدّم أجمل الصور المعاصرة في صياغة إعلانية أو لأي غرض من الأغراض، وكل منا يمكن أن يقدّم الصورة الحقيقية لدينه، لذلك يجب أن نحاسب أنفسنا ونثق فيها، فذلك أول الطريق الى استعادة ما هو أصيل فينا ويُعيدنا الى الخط الأول، حيث كان سلفنا الذي لم يتلاقح أكثر منا مع الآخرين ومع ذلك أبدع وأنجز وأنتج أفضل الأشياء. maaasmaaas@