عندما يموت مفكر عربي فإن أول ما تراه وتشاهده في التغطيات الإعلامية القول: بأن موته يعد خسارة كبيرة, وهذا القول يعد حالة نفاق, لاسيما أن أغلب المفكرين العرب لو عرفوا بما قيل عن موتهم بأنه خسارة كبيرة لربما تمنوا الرجوع للحياة, أما إذا عرفوا بأنهم كرموا بعد موتهم تكريماً يليق بعطاءاتهم فسوف يصابون بشيء من الجنون والقهر, لكن الموت بالنسبة لهم أكثر رحمة وحقيقة من زيف الواقع وتناقضاته. ومن الأدلة على كون هذا الأمر من النفاق أن أولئك المفكرين لم يعيشوا حياتهم المطمئنة, بل عاشوا مشردين مطرودين في غير بلدانهم, وإذا كانوا يعيشون في بلدانهم فسيكون التهميش والإحباط والمنع قيداً على حرياتهم ومسيرة مؤلفاتهم وكتاباتهم التي تطبع في الخارج. خلال نظرة سريعة لحالة أهم الأسماء العربية وكيف ماتوا غرباء فإن ذلك يشعر العربي بغربته وضياعه في موطن عروبته, ويصدق على هذا قول المتنبي: وترى الفتى العربي فيها/ غريب الوجه واليد واللسان.لسنا في معرض البحث عن الأسباب التي جعلت البيئة العربية بيئة طاردة لعلمائها ومفكريها لأننا مهما تتبعنا الأسباب والمسببات فلن نستطيع أن نوجد الحلول والبدائل, ولكن من خلال نظرة سريعة لحالة أهم الأسماء العربية وكيف ماتوا غرباء فإن ذلك يشعر العربي بغربته وضياعه في موطن عروبته, ويصدق على هذا قول المتنبي: وترى الفتى العربي فيها/ غريب الوجه واليد واللسان. أتذكر في هذا الصدد نهاية المفكر الكبير عبد الرحمن بدوي, حيث أرجعته طائرة مصرية للقاهرة, وأثناء انزاله منها كان مسجى على سرير يحمله مسعفون, ورأيت فيه رمق الحياة الأخير, ونظرة السخرية المرة وهو يغمض عينيه من فلاشات المصورين والمستقبلين الفرحين بعودة العالِم والرمز الوطني, ولكنني رأيت أنه لم يعد عالماً أو رمزاً وطنياً بل عاد مومياء نخر جسده ألم الغربة التي قضاها وحيداً في بنسيون في فرنسا لا يشاركه في غرفته سوى كتبه وأوراقه, ومع احتفالات المصريين بعودة (مومياء عبدالرحمن بدوي) لبلده وموطنه إلا أنه فارق الحياة. كما أن مفكراً آخر لم يكن بعيداً عن هذا الأمر وهو الذي درس في السوربون الفرنسية, ولم يجد في بلده مكاناً يستوعب نظرياته وأحلامه المعرفية فقضى حياته متفرنساً في المكان والزمان, لكنه سخر كل كتاباته في البحث في الانثربولوجيا والسوسيولوجيا التي طبق من خلالهما نقده للعقل العربي, والبحث عن الجذور الإنسانية في الفكر الإسلامي القديم, وأثناء نزوله في مطار الأردن ليقدم محاضرته الأخيرة كان يسأل واحداً من المثقفين استقبله: أين الناس؟ فرد عليه هذا المثقف: الناس مشغولون! هل تريدهم أن يستقبلوك في المطار؟ هل تريدهم أن يضعوك على رؤوسهم من المطار حتى باب غرفتك في الفندق؟ سكت أركون وكأن هذه السكتة هي الغصة التي لحقته لمقر إقامته في فرنسا ومات بعدها. ولما التقينا بالمفكر محمد عابد الجابري في أثناء محاضرته في نادي الأحساء الأدبي شعرت بقلقه وإحباطه وتوتره, ولم يكن الجابري الذي عهدته في مؤلفاته وكتاباته التي كانت من البوادر الأولى في نقد العقل العربي, كان الجابري حريصاً في محاضرته أن يقول ويردد: (أنا مسلم مالكي), وكأني بالمفكر الكبير يرحمه الله يجد في نفسه غصة كبيرة وهو يقول هذا الكلام على الملأ الذين لا يقبلون بأي نتاج علمي وثقافي من شخص إلا بعد أن يعلن انتماءه لدينه الإسلامي العظيم. وللحق فليست المشكلة في إعلان الانتماء للإسلام فهو شرف لنا جميعاً, لكن المشكلة هي المزايدة والمساومة على دينه الذي أخرج منه لسبب بسيط وهو أنه أشعل فتيل عقله وحاول التفكير. كما أن المفكر علي الوردي -صاحب الدراسات الاجتماعية المثيرة والمدوخة والمحدثة للدويِّ والضجيج في العقل العربي- لم يجد في عِراقه مكاناً آمناً يبقيه لنهاية حياته, فهرب من بطش السياسيين الصدَّاميين (فجاء يلتمس العناية من الملك حسين في الأردن الذي احتضنه بعد أن نخر المرض في أحشائه حتى غدت هذه النهاية في حياة الوردي شاهداً على ظلامية عصر لم يقم وزناً لأشجع مفكريه الاجتماعيين). وبعد هذه النماذج هل تريد أخي القارئ أن تكون مفكراً يسير على خطى الخارجين عن نسقية العقل الجمعي؟ إذا أردت فلك أن تموت بحسرة وغربة المفكرين, أو الزم الغباء و (طق البقارة) لتموت ميتة سعيدة. [email protected]