نقرأ بعض العبارات والجمل هنا أو هناك فنتوقف عندها وقد تملكنا الإعجاب، سواء بفكرتها المفاجئة التي تأخذنا على حين غرة، أو بطريقة صوغها لمعنى ما مألوف ومطروق بطريقة جديدة لماحة تفتح لنا نافذة للتأمل في فحواها والوقوف عليها «وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه» كما يقول المتنبي. من بين ذلك قول الشاعر الأمريكي مارك ستراند: إنه لا يكتب لأن لديه ما يقوله، بل إنه يكتب ليكتشف ما يريد قوله. الكتابة بهذا المعنى إذن وسيلة اكتشاف وبحث وتقص عما يمكن للكاتب أن يقوله. في هذه الحالة لا يقدم الكاتب على الكتابة وفي ذهنه فكرة مسبقة أو معنى جاهز ومعد سلفاً، بل إنه يلجأ إليها ليستكشف ما يمكن كتابته وما يمكن قوله والبوح به. وبهذا تصبح الكتابة ضرباً من المغامرة واستكشاف المجهول الذي لا سبيل إلى معرفة ما سيتكشف عنه. الكتابة بهذا المعنى إذن وسيلة اكتشاف وبحث وتقص عما يمكن للكاتب أن يقوله. في هذه الحالة لا يقدم الكاتب على الكتابة وفي ذهنه فكرة مسبقة أو معنى جاهز ومعد سلفاً، بل إنه يلجأ إليها ليستكشف ما يمكن كتابته وما يمكن قوله والبوح به هذه المقولة تصدق بطبيعة الحال على الكتابة الإبداعية، والكتابة الشعرية على وجه التحديد. فالشاعر حين يكتب نصاً شعرياً لا يمتلك معنى أو رسالة أو فكرة محددة يسعى لإنزالها من عالمها الأثيري ويفرغها في هيئة أحرف وكلمات وجمل تتابع وتتعاضد لتؤدي وتوصل ذلك المعنى إلى المتلقي في الطرف الآخر من ضفة الكتابة. إنه يسعى ليكتشف ممكنات القول وما تتيحه اللغة من احتمالات مجازية وتركيبية تفاجئ الشاعر ذاته قبل أن تفاجئ القارئ وتصيبه بالدهشة. الشاعر هنا أشبه ما يكون بالمستكشف للأرض البكر التي لم تطأها قدماه من قبل. والمتلقي بطبيعة الحال شريك له في تلك الرحلة. في كتاب «مديح الخيانة»، يورد الشاعر والمترجم الراحل بسام حجار القصة المعروفة لأبي تمام مع من سأله: «لم لا تقول ما يفهم؟»، ورد أبي تمام المفحم:» ولم لا تفهم ما يقال؟»، بما تحمله هذه الحكاية من اتهام متبادل بين المتلقي والمبدع حول غموض الكتابة وتعثر وصول المعنى وانقطاع خيطه بين الطرفين، ليضيف إلى هذين السؤالين سؤالاً ضمنياً آخر هو «لم لا تفهم ما لا يقال؟»، باعتبار أن الشاعر، بمعنى من المعاني، يسعى للكشف عن المضمر والمعمى وما ليس واضحاً مما يعتمل في نفسه، ومن هنا تصبح الكتابة محاولة لاكتشاف ما لا يقال، أو سعي لاكتشاف ما يريد الشاعر قوله دون أن يتيقن ما هو على وجه التحديد.