كانت الثورة السودانية التي أطاحت بالرئيس عمر البشير تشبه «جراحة دقيقة، نفذها أبناؤنا لإزالة ضرس آلمنا طوال 30 سنة»، كما يصفها سليمان أرو من حزب «الشرق». إلا أن السؤال المهم بعد إعلان وزير الدفاع السوداني ورئيس اللجنة الأمنية العليا، الفريق أول عوض بن عوف عزل عمر البشير وتعطيل الدستور، وتشكيل مجلس عسكري انتقالي يكون وزير الدفاع الفريق عوض بن عوف رئيساً له والفريق كمال عبدالمعروف نائبا للمجلس، ثم بعد ذلك إعلان بن عوف تنحيه وتعيين عبدالفتاح البرهان رئيساً للمجلس العسكري الجديد، أين يتجه المشهد في السودان؟ ما المسارات المحتملة للأوضاع في البلاد؟ فهل نحن بصدد الحديث عن ليبيا أخرى وسوريا أخرى ويمن آخر ومسارات من الفوضى والدمار، أم أن ثورة ديسمبر سوف تضع أسس الدولة السودانية الحديثة، دولة مؤسسات بها ديمقراطية وتحكم القانون، أم هناك مسار ثالث وهو أن الأمر لم يتعد تغييرا في الوجوه بخروج البشير من المشهد السياسي لإعادة ترتيب الأوضاع، أي رحيل البشير وبقاء «نظامه»؟ المشهد بالغ التعقيد والمعادلة صعبة وإمكانية انجراف الوضع إلى الفوضى ممكنة ونسب الفشل أكبر من نسب النجاح. أتمنى أن يكرر عبدالفتاح برهان سيناريو سوار الذهب في السودان ويُسلّم الحكم لحكومة مدنية منتخبة ويكون نموذجا يحتذى به في التغيير السلمي للسلطة. ما يحتاجه السودان التي عبر عنها المتظاهرون هي إعادة صياغة عقد اجتماعي يؤسس لدولة مدنية وتستعيد به الثقة بين السلطة والشعب التي كانت مفقودة طوال الثلاثة العقود الماضية في عهد نظام البشير أو الحكومات السابقة التي تتلخص في حكم العسكر. لم يستطع البشير الذي أعطي فرصة كبيرة بعد الاحتجاجات التي عمت الدول العربية عام 2011 أن يقوم بتغيير حقيقي ويدخل في عملية إصلاحية حقيقية تعيد الثقة في نظامه وتحفظ لهذا البلد الكريم والشعب الطيب كرامته، إلا أن الاعتقالات السياسية زادت في عهده والفساد انتشر ومستويات عالية من الفقر والبطالة، إضافة إلى تفكك وحدة السودان، باستقلال الجنوب، ونزاع دارفور. ولم تعد شماعة الحصار والعقوبات تكفي لامتصاص ضغط الشارع الذي خرج وهدفه إسقاط النظام وتشكيل حكومة انتقالية مدنية تنهي وتطوي صفحة العسكر. فحكم العسكر على مدى التاريخ لم يؤسس دولة قانون، فمفاهيم الدولة المدنية التي تقوم على وجود قانون يحمي الحريات وحقوق الأفراد وعلى المواطنة والتعددية وقبول الطرف الآخر والتسامح والمساواة والديمقراطية كوسيلة للحكم الرشيد، تغيب عن عقلية العسكر أو إنها لم تتشكل بعد. ولعلي أستدرك فأقول، إن استحضار ما جرى إبان ما كان يعرف بالربيع العربي في الجمهوريات العربية المنتفضة لم يكن مشجعا، بل كانت تجارب مريرة، فسقوط الأنظمة السابقة لم يؤد إلى بناء دولة مدنية حديثة، بل إن الهدم كما شاهدنا في بلدان الثورات أدى إلى الفوضى، الفوضى الطائفية أو القبلية أو حروب أهلية. فالعالم العربي لم يكن ليتحمل ثورات راديكالية لأن القوى الاجتماعية والطبقية التي تحمل مفاهيم الدولة المدنية والمرشحة لحمل هذا المشروع لم تتشكل. وبالتالي لا بد لبلد كبير مثل السودان من خارطة طريق واضحة تحفظ لهذا البلد أمنه واستقراره ووحدته، والذي يتمثل في التمهيد لأجواء مصالحة وطنية شاملة بين القوى الثورية والاتفاق على صياغة عقد اجتماعي جديد، يضمن إدماج كل القوى في مسار الإصلاح والتغيير الذي سيساهم في الاستقرار والسلم الأهليين. يمكن الاستفادة في هذا الصدد من المبادرة الخليجية التي كانت مفتاح إنقاذ اليمن وتهدف إلى توفير انتقال سلمي للسلطة وتجنيب البلد الفوضى لولا انقلاب ميليشيات الحوثي عليها بدعم من إيران. دون هذه المصالحة فإن الوضع سوف ينفجر من جديد ويتفاقم، وبالنهاية سيكون لصالح قوى ثورية لا تزال تحمل قيم النظام السابق ويعاد سيناريو 1989.