كان الوعد الأمريكي مغريا لكثيرين كانوا يأملون رؤية عراق جديد، ينهض من تحت ركام حكم حزب البعث، ويتحول إلى ألمانيا جديدة تولد في الخباء العربي، وفي منطقة الشرق الأوسط المنهكة. كان ذلك الحلم في أوائل عام 2003، وكانت واشنطن، العاصمة العظمى، تواصل حشدها الدبلوماسي، والسياسي، والعسكري، للإطاحة بنظام صدام حسين. كانت آلة الترويج الأمريكية، وبالأذرع الإعلانية الكبرى، تنقل صورة العراق الجديد، وكيف سيكون شكله بعد أن تحرر أمريكاالعراقيين من نظامهم القمعي، وتبني لهم نموذج دولة جديدا، يمكن لباقي دول الشرق الأوسط أن تحذو حذوه. لم يكن للأحلام سقف، وغالى البعض في توقعاتهم للنظام الجديد الذي سيقود المنطقة، تحت مظلة الرعاية الأمريكية. كانت حروب الصورة تغزو العالم وتهز الكثير من القناعات التي راكمها نشوء الدولة القومية، وهشم مفاهيم عميقة، أهمها السيادة. وبعد سلسلة من الأخطاء المريعة، تسبب فيها عدم الإلمام العميق بالجغرافية البشرية للمنطقة، وعدم سماع نصائح قادة خبراء، تحول الحلم الأمريكي إلى كابوس مفجع زلزل المنطقة، وأصابها بانهيار جزئي، كاد يبتلع العراق ويحوله إلى مجموعات من الدول على أساس عرقي، وطائفي. لقد دُمرت البنية التحتية والإدارية لدولة ذات تاريخ كبير، وعطشت دولة ذات نهرين، وعانى اقتصادها وشعبها الأمرين رغم الاحتياطي النفطي الضخم. لقد غاب الاستقرار فغابت الدولة. لذلك لا أزال أميل إلى مدرسة في العلوم السياسية ترى أن الاستقرار هو اللبنة الأساسية لوجود الدولة، ما يمكنها من الاستفادة من ثرواتها، وبناء مستقبل أفضل لشعبها. كانت تجربة العراق مثالا على الطريقة التي تدير بها واشنطن، والمعسكر الغربي الأمور. أخطاء طفولية رغم الإعدادات المهولة، والتحضيرات المطولة. لكن أخطاء قاتلة، كحل الجيش العراقي مثلا، كانت كفيلة بانهيار ركن ركين من كيان الدولة، الذي كان له الدور الأكبر في حفظ استقرارها منذ ثورتها الأولى قبل نصف قرن. لم تسمع واشنطن نصيحة الملك عبدالله، الأمير حينها، الذي حذر من هذه المسألة التي جعلت مئات الآلاف من الجنود يبدؤون مقاومتهم للاحتلال الأمريكي بعد حل جيشهم، ومصدر رزقهم. وفي عام 2011 كانت المنطقة مسرحا لمشاهد جديدة. كان الوعد أمريكيا وأوروبيا بربيع جديد يبني عالما عربيا مختلفا. رغم أن التسمية فشلت تاريخيا، فلم ينجح أي ربيع منذ ثورات الربيع الأوروبية في القرن الثامن عشر، حتى ربيع براغ. بحكم عملي الصحافي فإنني ألتقي بسياسيين ورجال إعلام غربيين، وأكتشف خلال حواراتي المعمقة مع عدد من الساسة والإعلاميين الغربيين، تلك الهوة الكبيرة التي تفصل بيننا. إنهم لا يفهمون أننا لا نزال نعيش في بلدان لم تكمل عملية تمرحلها التاريخي بعد. لقد خاضت الدول الغربية صراعا امتد لقرون من أجل الحصول على العديد من الحقوق الفردية، فلا يمكن الضغط على دول عربية لفرض هذه التغييرات خلال سنوات معدودة. هذا صدام مع التاريخ قد يهدم الأسس، ولا تبقى دولة، ولا نظام، ليتم تطويره، وتغييره.