محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين، والتي لن تجري على الأرجح قبل ستة أشهر، ستكون الجزء الاسهل من قصة النهاية المأسوية لرجل المآسي في العراق والمنطقة العربية. اما الجزء الاصعب بالنسبة اليه فسيبدأ من الآن، بعدما وضعه وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد في تصرف زبانية محققي وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي اي ايه الذين ربما عرفهم صدام كشركاء او حلفاء طيلة الحرب العراقية - الايرانية الطويلة، لكنه لم يختبرهم قبل الآن كأعداء. والحال ان المحققين لن يوفروا الرئيس الاسير من سوء العذاب. فهؤلاء، الذين سيضم فريقهم اعداداً من الضباط ومستخلصي المعلومات وتقنيي كشف الكذب وعلماء النفس وخبراء التعذيب النفسي والجسدي، سيطبقون الخبرات الهائلة التي حازتها "سي اي ايه" طيلة نصف قرن في هذا المجال. وهذا يشمل، من ضمن ما يشمل وفق "واشنطن بوست": البدء بطرح أسئلة يعرف المحققون الاميركيون سلفاً الاجابات الصحيحة عليها. وهذا سيمكنهم من التمييز بين الصدق والكذب في كلام صدام. في الوقت ذاته، يكون علماء النفس قد بدأوا في درس كل حركة يقوم بها صدام، ليس فقط خلال التحقيق بل أيضاً خلال أكله ونومه وحتى خلال أحلامه. إنه، كما قال خبير أميركي، سيكون تحت الرقابة المطلقة 24/24 ساعة في اليوم. بعدها ستطبق ثلاث استراتيجيات: الاولى، يتوزع خلالها المحققون دوري الشرطي الجيد والشرطي السيئ. والثانية، تتضمن إدخال ضابط أميركي كبير الى زنزانة صدام يتقن اللغة العربية، ليوحي له بأنه لا يوافق على الكثير من السياسات الاميركية بهدف هز ثقته بنفسه وجعله معتمداً على شخص واحد. والثالثة، عدم معاملته كرئيس دولة أسير لتحطيم عنفوانه وروحه المعنوية. ثم ستكون هناك إستراتيجية رابعة تستند الى إدخال السجين الى ديكور وتجهيزات توحي له بأنه في دولة اخرى، أو بدفعه الى قراءة صحيفة يعرف فيها ان احد كبار مساعديه خانه. عمليات التعذيب النفسي وربما الجسدي أيضاً التي تستهدف تفكيك شخصية صدام ودفعها الى الانهيار التام. الأنا المتضخمة هل كان الرئيس العراقي السابق يتوقع هذه الحياة المرعبة تحت الأسر، حين رفع يديه الى أعلى في القبو ليعلن أنه "رئيس العراق" وبأنه "مستعد للتفاوض"؟ الارجح ان الامر كذلك. فهو، على أي حال، الاكثر خبرة بفنون الاستخبارات وأفانين التعذيب. لا بل اكثر: حياته كلها الممتدة من النشأة المعدمة في كنف عم مؤمن بالفاشية الى عبادة الذات المطلقة في السلطة، كانت تبدأ وتنتهي بكلمة واحدة: العنف. العنف العاري بكل صوره وأشكاله. لكن، وطالما ان الامر كذلك، لماذا قبل صدام أن ينتقل من قبو الاختباء الى قبو التعذيب. لماذا لم يقاوم أو ينتحر كما فعل نجلاه وحفيده؟ الاغلب أن السبب يكمن في أن الانا الديكتاتورية والذات المتضخمة وصلتا لديه الى مراحل متقدمة بات يعتبر فيها نفسه "خالداً"، بغض النظر عن طبيعة او شكل هذا "الخلود". غابرييل غارسيا ماركيز سبق أن عالج مسألة الخلود هذه بشكل رائع في "مائة عام من العزلة" و"خريف البطريرك". بيد أن ديكتاتوريي أميركا اللاتينية "الأبديين" الذين وصفهم ماركيز، لم يقتربوا حتى اقتراباً من وضعية صدام. فبلدانهم لم تدمر وتحرق وتفقر في عهدهم عن بكرة أبيها، كما العراق. وشعوبهم لم تتشظى بين فئات مهاجرة في منافي الخارج واخرى مهاجرة في سجون الداخل، كما الشعب العراقي. وجيل كامل من اطفال شعوبهم لم يلفظ انفاسه ببطء، فيما هم يبنون القصور لتمجيد الذات كما فعل هو. وفوق هذا وذاك، ديكتاتوريو ماركيز لم يعتبروا قبول الذل وهدر الكرامة، جزءاً مقبولاً من شروط خلود الذات. وحده صدام فعل ذلك. ووحده الانتفاخ المطلق للذات هو المسؤول عن تشبثه ب"الخلود". هذا في إطار التفسير النفسي - الوجودي. لكن ثمة تفسير آخر سياسي- فكري هذه المرة، تقدم به الكاتب الاميركي ستيفنز هامفريز. ففي كتابه الممتع "بين الذاكرة والرغبة"، يرى هامفريز الآتي في شخصية صدام حسين: الرئيس العراقي لم يكن غبياً. قد يكون إنتهازيا، لكن هذه في النهاية سمة يجب ان يحوزها كل من يريد العمل في السياسة. الرئيس العراقي قد يكون وحشياً وبربرياً وصلفاً ولامبدئياً، لكنه حتماً ليس مجنوناً في سياساته، بما في ذلك سياسة غزو الكويت. الرئيس العراقي تعاطى مع الولاياتالمتحدة وفق ما تمليه عليه ذاكرته الجماعية، المرتبطة بتجربته مع الاجهزة الاميركية المختلفة. وعلى رغم ان هذا قاده الى سلسلة كارثية من الاخطاء، الا ان أي سياسي آخر يمتلك الذاكرة نفسها كان يمكن أن يرتكب الاخطاء نفسها. أمام هذه اللوحة، نحن إزاء شخصية سياسية براغماتية لا تبني خططها في الهواء، بل تقيم كل حساباتها على قياس الفعل ورد الفعل الاميركي. وهذا ما حدث بالفعل حين غزا صدام إيران مراهناً على الدعم الاميركي، فحصل عليه. وهذا ما حدث حين راهن على السكوت الاميركي على غزو الكويت، فلم يحصل عليه لكنه استبدله لاحقاً بسكوت اميركي آخر عن بقاء نظامه. ويبدو ان هذا الرهان نفسه استمر قبل سقوط بغداد في 9 نيسان إبريل 2003، حيث أوضحت المعلومات الاخيرة التي كشفت عنها "نيويورك تايمز" انه كان يراهن حتى اللحظة الاخيرة على حل وسط ما مع واشنطن. نهاية "الرومانسية" مع اعتقال صدام قد ينتهي فصل دام من التاريخ العربي، يمكن ان نطلق عليه إسم مرحلة القومية العربية "الرومانسية". بالطبع، الرومانسية المقصودة هنا لا علاقة لها لا من قريب أو بعيد بالحب او المحبة. بالرقة او الحنو. إنها تعبيراشتق في اوروبا القرن التاسع عشر لوصف الحركات القومية التي غلبت المشاعر على الحقائق، في خضم اندفاعتها لبناء الدول - الامم. القومية العربية الرومانسية، بهذا المعنى، كانت مغرقة مثلها مثل نظيراتها الحركات الاوروبية، في التركيز الشديد على الهوية والانتماء، ومتطرفة في إهمالها البرامج السياسية المحددة لتنفيذ أهدافها في بناء دولة الامة. وهكذا اطلقت حركة القوميين العرب الشعار الفضفاض "وحدة، تحرر، ثأر"، من دون تقديم أي تصور عملي لا للوحدة ولا للتحرر ولا بالطبع للثأر. وهكذا أيضاً، كان حزب البعث يركز على "خلود الامة العربية الواحدة"، من دون أن ينتبه للحظة الى أن افتراض الخلود لا يؤدي تلقائياً الى فرض الوجود. هذه الفجوة بين الشعار الرومانسي وبين الواقع العملي، والتي ترافقت مع رفض معظم الحركات القومية العربية لكل الفكر الليبرالي والديموقراطي، سرعان ما أدت الى تنصيب "الحركة" و"الحزب" وصياً على "الجماهير". ثم تنصيب الزعيم او الاخ القائد وصياً على الحزب والحركة. والحصيلة: سلسلة متصلة من الانظمة الاستبدادية التي حكمت باسم الثورة ورفض الامر الواقع، وسلسلة أخرى من "الزعماء" الذين اختزلوا الثورة والحزب والامة في شخوصهم. وصدام حسين كان النموذج الفاقع على مثل هذه الزعامات. لكنه بالتأكيد لم يكن، وليس هو الآن، نموذجها الوحيد. مصير المقاومة الآن، ومع بدء العد العكسي لنهاية هذا النوع من القومية مع أسر صدام حسين، هل يسجل هذا التطور أيضاً بدء العد العكسي لنهاية المقاومة العراقية في شقها الصدامي؟ ثم: ماذا عن مصير العراق بعد صدام؟ ماذا عن السنة والشيعة والاكراد والتركمان، وعن التوجهات المتوقعة لسياسات الاحتلال الاميركي ؟ لنبدأ بالمسألة الاولى: المقاومة. منذ اعتقال صدام والتحليلات الحائرة تتوالى عن دوره في المقاومة. ومعظمها يتمحور حول سؤال واحد: هل كان يمكن لصدام ان يدير مقاومة واسعة على هذا النحو، فيما هو مختبئ في جحر بعمق اربعة أمتار تحت الارض، ومن دون أي اجهزة اتصال متطورة؟ الرد هو بالايجاب. فالرئيس العراقي السابق لم يكن مضطراً للتخطيط لكل عملية، ولا حتى للإشراف عليها. كل ما كان عليه القيام به في البداية، هو تنظيم هيكلية المقاومة، ثم توفير صنابير الدعم المالي لها، ثم دفعها الى الاعتماد على نفسها. صدام، بهذا المعنى، كان رمز المقاومة البعثية لا قائدها. لكنه كان رمزاً مهماً، لأن هدف المقاومين البعثيين لم يكن فقط دفع الاميركيين الى الخروج، بل تسهيل دخولهم هم مرة اخرى الى مراكز السلطة في بغداد. وبالطبع، صدام كان يفترض ان يكون على رأس هؤلاء الداخلين. والآن، ومع وقوع الرمز والممول الرئيس في الأسر، لن تكون الصورة زاهية كثيراً بالنسبة الى الشق الصدامي للمقاومة. فصدام، أولاً، سيكون اكثر من مستعد الآن لدعوة انصاره الى إلقاء السلاح. وهذا امر بديهي. إذ لا يعقل ان ينحاز الرئيس الى السلامة، ثم يواصل دعوة مرؤوسيه الى تعريض حياتهم الى الخطر. وبما ان الرئيس العراقي السابق يملك، ثانياً، كل او معظم صنابير المال الضرورية لشن أية حرب، فإن اعتقاله سيسفر عن إختناقات لوجستية - مالية لا ريب فيها. ثم هناك، ثالثاً، الجانب المعنوي. فالبعثيون العراقيون الذين انغمسوا في حرب العصابات، آمنوا بقوة بدور "الزعيم" في التاريخ. وبما ان هذا الزعيم أصبح خارج هذا التاريخ، فهذا سيؤثر سلباً على إرادة القتال لديهم. هذا لن يعني أن كل الصداميين سيستسلمون. لكنه يعني بالتأكيد ان المقاومة في شقها البعثي في ظل صدام الحر الطليق، لن تبقى هي المقاومة نفسها وصدام معتقل أسير. وإذا ما صح هذا التوقع، فإن دينامية المقاومة ستلقى على عاتق الحركات الاصولية العراقية وغير العراقية، التي تنتهج أساساً أسلوب العمليات الانتحارية. لكن، وعلى رغم ان مثل هذه العمليات يحدث اضطراباً كبيراً في نسيج الصراع العراقي، الا انها غير قادرة على التبلور في مشروع سياسي محدد. هذا عن المقاومة. فماذا عن السنة والشيعة؟ الصورة من الآن فصاعداً قد تكون غريبة بعض الشيء: جهود اميركية ودولية ستبذل بكثافة لمحاولة استمالة السنة الى "المستقبل الاميركي"، ولإبعادهم عن الماضي الصدامي، في حين ان الشيعة سيجدون أنفسهم شيئاً فشيئاً على طرفي نقيض مع اميركا او مع ما يسمى قوات التحالف. الاشارات الى احتمال بدء هذه المبادرات تجاه السنة كانت كثيرة اخيراً، فبول بريمر، وخلال اعلانه "إننا قبضنا عليه" على صدام، كان حريصاً ايضاً على دعوة السنة الى طي صفحة الماضي وبدء صفحة جديدة. ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير شدد بقوة على أنه "سيعمل لأن يكون للسنة دور كامل في العراق الديموقراطي الجديد". في حين كان العديد من الخبراء والمحللين الاميركيين يدعون الى التراجع عن فكرة شطب البعثية من السياسات العراقية، لأن ذلك أدى برأيهم الى شطب السنة. أما بالنسبة الى الشيعة فالامر يبدو وكأنه يرقص على طبول موسيقى اخرى. إذ أن إزاحة كابوس صدام عن الصدور، سيزيح في الوقت نفسه الفضاء الذي كان يفصل بين شيعة العراق وبين المحتلين الاميركيين. وهو الفضاء الذي خلق بين الطرفين "هدنة باطنية" إنطلاقاً من "مصالح باطنية". اما الآن، ومع زوال هذا الفضاء، سيجد الشيعة العراقيون انفسهم وجهاً لوجه مع احتلال قد تختلف مصالحه مع مصالحهم، ليس فقط على الصعيد السياسي والاقتصادي، بل أولاً وأساساً على المستوى الوطني. هوية عراقية جديدة وحين يحدث ذلك، والاغلب أنه سيحدث، ستتعقد كثيراً الصورة بالنسبة الى الاميركيين الذين سيكتشفون ان وجود صدام كان يمنحهم شرعية لم يكونوا ليحلموا بها في غيابه. ومع تبخر هذا الوجود الآن، ستبدأ واشنطن بتحسس مدى الصعوبات الهائلة التي ستواجهها خلال محاولاتها لإعادة بناء العراق على الصورة التي تريد. اول من أشار الى هذه الصعوبات المؤلف الاميركي فيب مار، صاحب "تاريخ العراق الحديث". اذ كتب: "العراق يواجه الآن مهمة خلق رؤية جديدة للبلد، لا بل في الواقع هوية جديدة ثقافية وسياسية لا تتطلع الا الى الداخل العراقي وتحل مكان الهوية القومية العربية السابقة. وهذا لن يكون سهلاً". لماذا؟ لأن الاكراد، برأيه، المتمتعون بالحكم الذاتي منذ اكثر من عقد، سيجدون صعوبة في إعادة الاندماج في الجسم السياسي العراقي. ولان الشيعة يمرون حالياً بمرحلة إحياء ديني ويريدون تشديدًا أكبر على الدين والشريعة في الهوية العراقية الجديدة. أما السنة الخارجون لتوهم من تجربة القومية العربية، فلن يجدوا من السهل عليهم الدخول في بوتقة هوية جديدة يسيطر عليها ليس الوطنيون بل الاصوليون الشيعة. هذه الصعوبات الداخلية الخطيرة قد تتقاطع مع اخرى خارجية لا تقل خطورة، إذا ما اعتبرت إدارة بوش القبض على صدام، بمثابة تصريح لها بمواصلة الاستفراد بحكم العراق. وهذا لا يبدو مستبعداً لأسباب إستراتيجية واقتصادية. فالمحافظون الجدد الاميركيون ومعهم المجمع الصناعي - العسكري يعتبرون حرب العراق مجرد المقدمة الاولى لشن سلسلة من الحروب في إطار مبدأ الحروب الاستباقية. وعلى رغم انهم إضطروا خلال الاشهر القليلة الماضية الى التخفيف من حدة تمسكهم بهذا المبدأ، بسبب تفاقم الخسائر البشرية الاميركية في بلاد ما بين الرافدين، الا انهم تلقوا مع اعتقال صدام حقنة في العضل قد تشجعهم على المضي قدماً في مغامراتهم العسكرية المنفردة. اما الاسباب الاقتصادية، فكشف عنها اخيراً المحلل الاميركي بول كروغمان الذي وصف استغلال الشركات والمسؤولين الاميركيين لعقود إعادة البناء في العراق بأنها "تعني دخولنا في مرحلة جديدة من تجاوزات المجمع العسكري - الصناعي الاميركي". والحال انه يتبين يوما ًبعد يوم، أن هذه المصالح الاميركية الخاصة الضخمة، المتقاطعة مع مصالح المجمع العسكري - الصناعي، والتي تنشط الآن في العراق، مرتبطة بحلقات داخل حلقات، تبدأ من عائلة الرئيس جورج بوش نفسها، وتمر بعائلات الحزب الجمهوري الرئيسة، لتصب في النهاية في جيوب عائلات الشركات الاميركية. فقد كشف تحقيق أولي لوزارة الدفاع الاميركية أن شركة الخدمات النفطية "هاليبيرتون" التي كان يرئسها نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني، تلقت مبالغ طائلة في مقابل النشاطات التي قامت بها في العراق. وهذا شمل دفعات إضافية على مبيعات الوقود الى الجيش الاميركي ببعشرات ملايين الدولارات. ومعروف أن هذه الشركة قامت اخيراً بشتى انواع المشاريع في بلاد ما بين الرافدين، من إصلاح آبار النفط، الى تسليم الجنود البريد، وصولا حتى الى تجهيز ديك الحبش الخاص بعيد الشكر للرئيس بوش خلال زيارته الاخيرة لبغداد. وعلى رغم أن الملاحقات القضائية لهذه الشركة لن تطاول على الارجح تشيني، الا انها ستسبب حتماً وجع رأس حقيقياً لادارة بوش، بسبب استمرار "العلاقات الحميمة" بين "هاليبيرتون" وتشيني والعديد من المسؤولين الاميركيين. لا بل بدأت عوارض وجع الرأس تظهر من الآن. فقد كشف بعض النقاد الاميركيين أن "هاليبيرتون" حصلت على عقود حقول النفط العراقية من دون منافسة. كما انها حصدت من هذه العقود ارباحاً صافية قدرت بنحو بليوني دولار، في وقت كان الديموقراطى هنري واكسمان، يقول ان "تدقيقات المحاسبة التي تجري الآن، أكدت ما كنا نعرفه من قبل من ان هاليبيرتون كانت تبتز دافعي الضرائب وان البيت الابيض كانت يتركها تفعل ذلك". وبعد وقت قصير من فضيحة "هاليبيرتون"، كانت فضيحة أخرى اكثر خطورة تطل برأسها، لأنها تتعلق هذه المرة ليس بعائلة تشيني وغيرها من أسر البيت الابيض، بل بعائلة رئيس البيت الابيض نفسه. "فاينانشال تايمز" كانت أول من أماط اللثام عنها، حين أوضحت أن شقيق الرئيس بوش الاصغر، نيل بوش، عمل كجسر بين رجلي الاعمال الاميركي السوري الاصل جمال دانيال والاميركي جون هوارد وبين البيت الابيض، لتمرير صفقات في العراق وانحاء أخرى من الشرق الاوسط. اما "المكافآت" التي نالها نيل كانت بملايين الدولارات. ومع أن التفاصيل الكاملة لهذه الصفقات لم تتضح بعد، الا أن الاعلان الذي وضعته شركة نيل على الانترنت للترويج لوساطاتها والذي سحب لاحقاً من التداول قد يغني عن كل تدقيق، فقد جاء فيه: "الفرص التي تبرز هذه الايام في العراق لها طبيعة ومجال لم يسبق لهما مثيل. وهذا ما يجعل أي شركة اخرى غير شركة نيل غير قادرة على حيازة المهارات والخبرات التي تجعلها فعالة في كل من واشنطن دي. سي وعلى الارض في العراق". هذا الاعلان الفاقع دفع كثيرين في اميركا الى استخدام تعبير "على عينك يا تاجر" لوصف نشاطات نيل التجارية - السياسية. مزيج متفجر هذه المصالح الاقتصادية الاميركية الخاصة، المحركة على ما يبدو للكثير من الأخطاء السياسية والاستراتيجية الاميركية في العراق، ستتقاطع في حال استمرارها مع الصعوبات الداخلية الكبيرة التي أشرنا إليها، لتخلق مزيجاً متفجراً للغاية، وهو أمر بات أكثر احتمالاً الآن، بعد أن زال صدام ك"بعبع" يضبط حركة اللعبة السياسية في البلاد. لقد قال احد المحللين الاميركيين ان القبض على صدام انهى حقبة، لكنه لا يعني بداية مرحلة جديدة. حسناً. قد يكون هذا صحيحاً على المستوى التاريخي. لكنه ليس صحيحاً على مستوى التفاعلات السياسية. إذ أنه قد تولد الآن بعد النهاية الرسمية لحقبة صدام، حقبة سياسية جديدة، تبدأ خلالها المتاعب الحقيقية للولايات المتحدة في بلاد العباسيين. بالطبع، مثل هذه الحصيلة المحتملة لم تكن واردة قطعاً في ذهن صدام حسين حين رفع يديه داعياً الى التفاوض. فهمّه الاول والاخير، كما قلنا، كان استمرارية الذات المتضخمة. ومع ذلك، ربما كانت خطوة صدام هذه رمية من غير رام. ربما أسفرت عن تحقيق حلمه بدفع أميركا الى الندم، لأنها قررت إخراجه من اللعبة ربما. من يدري؟