يقال إن الدنيا أخذٌ وعطاءٌ، ونفس الجملة تُقال في العلاقات كذلك. وذلك مؤكد، ولكن الجملة تزعجني لما تحمل من معنى ضمني في تساوي ما نعطي مع ما نأخذ. ما أكثر الذين يشتكون من استغلال الآخرين لطيبتهم وكثرة العطاء الذي لا يقابله شيء، لدرجة توصل الأشخاص إلى استياء قد يؤدي إلى قطع العلاقات.. ولكن هل الأمر فعلًا كما يقولون.. إنه استغلال؟ أم أن الأقرب لذلك هو أن مَن أعطى تولّد لديه إحساس بتوقع أنه يستحق المعاملة بالمثل، أي أنه استشعر ذلك كحق له. قد يكون الأمر كذلك في الغالب، ولكن دعونا نتوقف قليلًا عند هذا النوع من العلاقات. هذه العلاقة تصبح علاقة المعاملات (transactional relationship) أي أن لكل عطاء ما يقابله من أخذ لدرجة أن بعض العلاقات تعتمد على التفاوض بين الطرفين، وهذا دارج بين الأهل وأبنائهم وبين الزوجين. فمثلًا «مقابل أن تقوم بواجباتك يمكنك استعمال الآيباد» أو «إن رافقتني لدعوة عائلية لا تريد الذهاب لها فسوف ....».. هذه المفاوضات تضع قيمة لكل هذه الأفعال لدرجة أنه يصبح لدينا ما يشبه سعر الصرف. أما الأطفال الذين تربوا على ذلك فينشؤون أنانيين، وسؤالهم الدائم «ما فائدة هذا لي؟» وهذا ما ينعكس على المجتمع بأكمله. يقول البروفيسور آدم جرانت (Adam Grant) عالم نفس المنظمات إنه يمكن تقسيم الموظفين إلى ثلاثة أقسام: الأول يعطي والثاني يأخذ والثالث يطابق أي يعطي بقدر ما يأخذ).. من خلال دراسات مطوّلة وصلت إلى نتيجة أن المنظمات يتحسّن أداؤها على جميع الأصعدة عندما تتبنى مبدأ العطاء، ويزيد عدد المعطائين. فهي تزيد في الربح ورضا الزبائن والمحافظة على الموظفين، وتقلل مصاريف التشغيل. ولكن ما هو العطاء في هذه الحالات؟ إن الأمر ببساطة أن يكون لدى الموظفين قابلية مساعدة الغير في أمور قد تكون بسيطة.. إحدى العادات الرائعة هي تلك التي تبناها العصامي آدم ريفكين (Adam Rifkin) وهي «خدمة الخمس دقائق»، حيث يسأل نفسه يوميًا: «ما الذي يمكنني أن أقوم به لتحسين حياة غيري؟». نتيجة ذلك قد تكون مشورة أو أن يعرّف شخصين ببعضهما أو يشارك أحدهم علمه أو غيرها من الأمور التي تعدّ صغيرة بالنسبة له، ولكنها تساعد غيره بتأثير كبير على حياته. لاحظ ريفكين أنه بعد تخرجه وجد نفسه في بيئة مليئة بأناس مشغولين ومهمّين وأغنياء، ومع ذلك كانوا يعطون من وقتهم بسخاء لمساعدة غيرهم. نمَّى ذلك الإحساس بالانتماء للمجتمع وأكسبهم مهارات، وفتح لهم أبواب النجاح بشكل جماعي. كل هذا ليس جديدًا علينا وإن كنّا بين حين وآخر نحب أن نرى قيمنا معززة بالدراسات.. فالرسول «عليه الصلاة والسلام» قال: «.. خير الناس أنفعهم للناس». هناك لذة خاصة لخدمة الناس.. أن تقوم بشيء ليس له مقابل ولا هو مرهون بتوقعات ولا محسوبيات تريد أن تجنيها للمستقبل. والغريب أن هذا العطاء بلا مقابل متوقع، يزيد السعادة ويُقلل الإجهاد. ما ينطبق على المؤسسات ينطبق على معاملاتنا الشخصية كذلك.. ثقافة العطاء تنمّي الثقة وتسمح للأشخاص بإظهار ضعفهم وطلب المساعدة، بينما ثقافة الأخذ تنمّي الشك والغدر والحسد.. غالبنا يوازن بين الأخذ والعطاء، ولكن ماذا لو أعطينا أكثر؟ كيف يمكن لك أن تحسن حياة مَن حولك؟