إني من الذين يوقنون ويؤمنون بالبساطة. ومن الذين يؤمنون ويوقنون بأن البساطة الفعالة هي قمة الذكاء الإنساني، وأن ما ينتشر بين الناس، يعم بالأرض، ويترحل عبر القرون وامضا واقيا، إلا وكان بسيطا. وأرى التعقيد صفة تفكير ربما ولكن ليست صفة ذكاء. الأفكار التي غيرت العالم هي لمعات ملاحظة بسيطة، أو خاطرة بسيطة.. ثم يتغير العالم، ولا يعود كما كان. هل رأيت أبسط تعبيرا وقوة تأثير عن كل المجلدات عبر الزمان عند كل الأمم في العدالة الإنسانية من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؟ إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بقي أيقونة عدل عبر العصور بجملة بسيطة اختصرت مطولات العدل حين قال: «لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله عنها». وأشهر كتاب بلاغة بالعربية واعتبرها «ديلون» وغيره الأحكم بكتب فلسفة الحكمة والحكم، ما نسب للإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنهج البلاغة، ليس لحجم الكتاب.. ولكن لأنه حِكم، وكل حكمة جملة بسيطة، وستجد أن في كل لغة ولهجة محكية بالعربية والفارسية والأردية والأفغانية والتركية والأذربيجانية، وحتى في العالمية، حكما تتداول على ألسنة الناس تعود لنهج البلاغة بدون أن يعلم المتكلمون لبساطتها. فالذكاء هو أن تجعل الناس يفهمون قولك أو فكرتك ببساطة.. وليس العكس، لأنه من الأسهل أن تعقد الأشياء، والأصعب أن تبسطها. البساطة تتطلب خطفة ملاحظة، وإداركا لماحا، وبرق استنتاج، وومض ظهور. وانظر يا من تقرأ هذه السطور أن البساطة تدخل العقل أسرع.. وتبقى أطول! البساطة تغير العالم، وليست التعقيدات المطولة. يتفق المختصون بعلم اسمه ميكانيكية الإدارة على أنك إن أردت أن تقتل موضوعا فشكل له لجنة. لأن اللجنة تعقد الموضوع، ولما يتعقد الموضوع يكون كالسلك الدقيق المتشابك يصعب فك اشتباكاته. لذا اعذروني إن كنت من غير المتحمسين لما يسمى بالعصف الذهني، حيث يجتمع المجتمعون لنقاش فكر أو رأي، ولا يخرج رأي ولا فكر من شدة التعقيد في النقاش، والتفرع المتفرع في النقاش، والنقاش للنقاش، وتجربة قوة الحناجر، وإثبات الحضور بالرأي المعاكس. فلا يخرج فكر ولا رأي.. ويبقى العصف، وتشتد عاصفته. رأيت أن العالم غيره أشخاص بسطاء كغاندي، ولكنه أعيا فلاسفة السلام ودعاة الحروب. ورأيت أن أمريكا العنصرية تحولت من حقبة لحقبة لأن رجلا ملونا تجرأ أن يقول ببساطة إنه يملك حلما! قوانين الجاذبية من أبسط القوانين، وتشكيلاتها هي التي تبدو معقدة، إن البساطة هي سؤال نيوتن بلحظة وعي لمحي: لماذا سقطت التفاحة من فوق؟ ثم أتبعها بسؤال أبسط وأذكى غير مجرى علم الفيزياء والحركة، وهو: لماذا لم تسقط التفاحة إلى أعلى؟ قوانين الحركة الثلاثة لإسحاق نيوتن التي يعرفها الجميع ويتداولونها كمثل استدلالي بلغة حياتهم اليومية، هي ذاتها التي تربط الأجرام السماوية في مداراتها وأفلاكها. لم يعتقد أحد ببريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية أن هناك من يتصدى لونستون تشرشل ويفوز عليه بعد أن خرج بطلا أسطوريا بعد الحرب الكونية الثانية، إلا بعد أن اتخذ منافسه غير المشهور «كلمنت أتلي» شعارا بسيطا كاسحا: «من يفز بالحرب، لا يعرف كيف يفوز بالسِّلم». وفاز كلمنت المجهول على البطل الأشهر تشرشل.