في مقالة نشرت مؤخراً للشاعر الأمريكي/ الصربي تشارلز سيميك تحت عنوان «لماذا مازلت أكتب الشعر؟»، يخبرنا بأن أمه قبيل رحيلها عن عالمنا، وكانت تقطن في إحدى دور رعاية المسنين، وجهت له سؤالا ذات يوم فاجأه وأخذه على حين غرة، ذاك السؤال هو : هل مازلت تكتب الشعر؟ حين أجابها بنعم ارتسمت علامات الدهشة والاستغراب وربما التوبيخ غير المعلن على ملامحها، وكأنها كانت تتوقع أن يكف ابنها وهو في العقد الثامن من عمره عن ممارسة ذاك العبث و»الهراء» الذي يسمى الشعر. كان يمكنها أن تتقبل على مضض هوس ابنها وشغفه بكتابة القصائد في فورة شبابه وفي بواكير حياته. أما أن يبقى مصراً على ضلاله القديم وهو في هذا العمر فكان أمراً ليس بوسعها استيعابه أو تقبله. حين يعرف أحد ما من خارج الدوائر الأدبية بالطبع أنه شاعر يكتب القصائد ويقوم بنشرها، فكان على سيميك أن يبتكر حينها إجابات مقنعة و ما يشبه الأعذار المختلفة لتبرير إقدامه على ذلك كانت ممارسة سيميك كتابة الشعر في بداية حياته أشبه بالسر والممارسة الخفية التي يحرص على ألا يعرف أحد عنها شيئاً لخضوعه الواعي أو اللاواعي لفكرة مهيمنة مؤداها لا جدوائية الشعر وفائضيته وانعدام نفعه وعملانيته. لم يكن سيميك يجد صعوبة في أن يقول لمن حوله: إنه يمارس الرسم حينئذ، وهو ما كان يقوم به بالفعل، ليقينه بأن علامات الاستفهام والتعجب لن ترتسم على وجوه سامعيه وهو يخبرهم بذلك. أما حين يعرف أحد ما من خارج الدوائر الأدبية بالطبع أنه شاعر يكتب القصائد ويقوم بنشرها، فكان على سيميك أن يبتكر حينها إجابات مقنعة وما يشبه الأعذار المختلفة لتبرير إقدامه على ذلك، مثل أن يقول مثلاً: إنه يفعل ذلك ليحصد أكبر قدر من الجوائز المخصصة للشعر والشعراء. حين يقحم المال في المسألة سيبدو الأمر مبرراً ومقنعاً.. لم لا؟ أما كتابة الشعر لأجل الشعر نفسه فبدت أمراً لا يمكن تفهمه أو استيعابه أو تبريره، ولاتزال في زمن «منضب» شعرياً لا يتم فيه تداول الشعر أو الإقبال عليه أو حتى مجرد قراءته العابرة إلا ضمن دوائر ضيقة (وما برحت تضيق) من القراء الذين قد لا نبالغ حين نقول: إنهم على الأرجح شعراء أو دارسون للشعر ومهتمون به، حتى ليوشك أن يكون مستهلكو الشعر هم منتجوه أنفسهم.