يعيشون في أعماق المجتمع .. ولكن يجهلهم الكثير, لهم مجتمعهم الخاص الذي يحتفظ بسريته, كما أن لهم أسماءهم الوهمية التي يستخدمونها طوقاً للنجاة, وكذلك لهم مواقف متباينة مع المجتمع ..، إنهم الأيتام من ذوي الظروف الخاصة، والذين يفضلون تسمية أنفسهم بأبناء الدار !!، .. التقينا بهم في هذا التحقيق لنسبر غور العلاقة الاجتماعية التي تربط هؤلاء الأيتام بالمجتمع بصفة عامة، ولنتعرف أيضا على حجم ونوعية هذه العلاقة إن وجدت، فضلا عن محور هذه المادة الذي يسعى إلى تحديد مستوى الترابط الاجتماعي بين أفراد هذه الفئة وبين أفراد المجتمع بجميع مستوياته وفئاته .. فإلى التفاصيل : نظرة المجتمع (ط) هكذا فضل أن يرمز لنفسه حفاظاً على خصوصيته, وهو أحد الأيتام من ذوي الظروف الخاصة, وحول علاقته بالمجتمع يقول (ط) :» نشأت في الدار مثل حال أغلب إخواني, وليس لي احتكاك بالمجتمع سوى مجتمع المدرسة, وكنت أنا وإخواني من الأيتام نعاني من عزلة اجتماعية بداخل الدار, ومن المؤسف أن احتكاكنا مع المجتمع كان في البيئة المدرسية فقط وفي مرحلة عمرية غير واعية لوضعنا, وكنا نعاني من طرح الأسئلة التي تسبب لنا الإحراج .. مثل السؤال عن الأهل وعن القبيلة فنضطر حينها على الكذب»، ويضيف (ط) :» بدأت أحتك بالمجتمع بعدما خرجت من الدار, فأسست قاعدة واسعة من الصداقات, ولكن هذه الصداقات متفاوتة, فمنهم من يعلم بأني مجهول النسب ومنهم من أفضل أن أخفي عنهم نسبي كي لا تنقطع العلاقة معه، فمجتمعنا لا يملك الصورة الواضحة عن الأيتام, وبمجرد أن يعلم الشخص أني من أبناء الدار تتغير نظرته تجاهي ويبدأ بالانسحاب من حياتي، لذلك أتعمد أن أسلك الطريقة السلبية للمحافظة على العلاقة الإيجابية، وذلك بتعمدي للكذب في معلوماتي الشخصية كنسبي مثلاً»، وعن الأحوال النفسية لهؤلاء الأيتام يقول (ط) :» أبناء الدار لا يريدون أن ينظر إليهم بعين الشفقة, فاليتيم يملك حاسة سادسة من هذه الناحية، وكلنا نحب أن يعاملنا الناس على أننا مواطنون صالحون ينتمون لهذا المجتمع»، وعن المواقف التي مر بها (ط) يقول :» كنت أصلي صلاة الفجر في أحد المساجد، وبعد انقضاء الصلاة رأيت رجلاً لا يستطيع القيام، فاستعان بابنه للنهوض .. وسمعته يدعو لابنه ويقول : الله يفتح عليك يا ولدي, عندها تمنيت أن يكون عندي أب يدعو لي هذه الدعوة الطيبة» لا علاقات وهذا اليتيم مساعد يتحدث حول محور الموضوع فيقول :» رزقني الله تعالى بوظيفة لا بأس بها في القطاع الخاص، وذلك بعد معاناة في البحث .. فأغلب الوظائف تعتمد على العلاقات القبلية أو العائلية، وهذا مالا أملكه فأنا يتيم لا أب يشفع لي ولا قرابة تساعدني، حتى علاقتي بزملائي في العمل لا تخرج عن حدود المبنى الذي نعمل به, وذلك لأني أحرص على الاحتفاظ بالسر الذي أحمله، ولذلك أعتذر عن الاجتماع بزملائي خارج العمل خشية الأسئلة الشخصية المحرجة، حتى جيراني أخفيت عنهم أني يتيم من أبناء الدار بسبب نظرتهم السلبية تجاه أبناء الدار، ولهذا السبب لم أقبل دعوة أحد لزيارة منزله كما أني لم أدع أحدا لزيارتي» أسرة يتيم «أغلب الأيتام يفضلون الاحتفاظ بأسمائهم والاكتفاء بالرموز»، هذا ما قاله المرموز لاسمه ب ( م )، وحول عدم ذكر اسمه الصريح قال :» لا أذكر اسمي الصريح لأسباب كثيرة، ففي مجال عملي لا أريد لأي شخص أن يعرف من أنا، خاصة أن جريدة «اليوم» متوفرة بموقع عملي، فلا أريد لأي شخص أن يعرف هويتي فتتحول نظرته تجاهي إلى نظرة شفقة»، وبالنسبة للحياة الزوجية للأيتام فيقول ( م ) :» الحياة الأسرية أصعب بكثير من ما يتخيله القارئ، فعند وفاة اليتيم فإن أسرته مهددة بالضياع، لأنه لا يوجد له قريب سواء له أو لزوجته يؤويهم خاصة في ظل الغلاء الفاحش وعدم توفر المسكن الخاص لليتيم، وهذا أصعب ما أراه وأهم ما أجده، حتى اليتيمة ومنهم زوجتي أصبحت مسألة حصولها على عمل من الأمور الصعبة، وللعلم زوجتي الوحيدة في الدمام والخبر من اليتيمات المتزوجات التي مؤهلها بكالوريوس وبمعدل عال، كما تملك الخبرة والشهادات التقديرية، ورغم ذلك فلم تجد حتى الآن الفرصة لتصبح موظفة، لاسيما أن ممن هم في مثل وضعها هم الأكثر حاجة للوظيفة، وهذا شيء أعانيه في نفسية زوجتي، ولا أريد أن أمرر هذه الفرصة مرور الكرام»، وعن اللحظات التي لن ينساها يقول ( م ) :» بما أني عشت متبنيا أغلب حياتي في أسرة، فلن أنسى يوم وفاة من كفلاني من أب وأم، كما أني لن أنسى سوء المعاملة التي وجدتها من أقاربهم حتى وجدت الدار أرحم !!» اندماج و من داخل هذه الدائرة يتساءل اليتيم (علي) ويقول :» ما الذنب الذي اقترفته كي يعاملني المجتمع بحذر؟! ولماذا يشعرني المجتمع بأني خطيئة تمشي على الأرض؟ فأنا إنسان تربطني بهذا المجتمع روابط العقيدة والانتماء لهذه الأرض الطيبة، وليعلم الجميع أن أبناء الدار يتحلون بأخلاق ربما لا يتحلى بها الآخرون من المجتمع «، ويختم علي حديثه بسؤال مهم فيقول :» متى يأتي الوقت الذي أرى فيه الأيتام مندمجين في مجتمعهم لا يخجلون من انتمائهم الذي أراده الله لهم ؟»، وعن الطرق التي استعان بها أبناء الدار للاندماج في المجتمع يكشف اليتيم ( و ) طريقته الاندماج قائلاً :» بنيت نفسي بنفسي، فلقد كنا منغلقين على أنفسنا في الدار، حتى وصلنا لسن الخروج منها، ولكني استعنت بالله تعالى ثم بالبرامج الحوارية الأجنبية التي تعرض الكثير من الحالات الاجتماعية، فهي السبب الرئيس بالنسبة لي في الخروج من عزلتي عن المجتمع، وكنت أتمنى أن يساعدني الإعلام العربي في تجاوز محنتي، ولكن للأسف وجدت أن المجتمع الغربي متفهما أكثر من مجتمعنا « الحجي : نحن مسئولون عن التعامل مع هذه الكينونة الحائرة من جهته تحدث مستشار الإرشاد النفسي عبدالرزاق الحجي حول محور المادة فقال :» لقد حفظ الله تعالى حق اليتيم وكفله، وبكل واقعية وصراحة واضحة مثل عين الشمس في رابعة النهار إننا بحاجة للعمل من نقطة الصفر حول هذه الأزمة النفسية التي تلاحق هذا اليتيم، كما نحن مسئولون عن تثقيف هذه الأجيال، وأن نكون دقيقين في التعامل مع هذه الكينونة الحائرة، فمشكلتنا تبدأ في الوعي والترشيد، ومن ثم طرق التعامل ثم التحفيز لاستقبال مستقبل مشرق ودافئ وساكن لهذا اليتيم لا ضارياً مخيفاً، وسأنقل هذه الواقعيات من خلال ما تعايشت معه في إحدى المدارس الابتدائية من خلال مشاهدتي لأحد طلاب أحد الفصول الذين أقوم بتدريسهم، فرأيته طالباً مميزاً مجتهداً يتحدث عن طموحه بشكل يفوق الوصف، وكان يذكر لي عن نفسه أحداثاً مميزة، وبعد سؤالي عنه وجدت أنه يكذب بشكل مستمر، بل وكانت هذه صفته بين أقرانه، ثم بعد الجلوس مع الطالب والتحدث معه ومناقشته واستعراض الماضي الذي يتعلق به علمت أنه يتيم من أفراد دار الأيتام، وكانت الحيل النفسية تفتعل في فؤاده ينام عليها ويستيقظ عليها، وكلي شكرٌ لك يا معلم الصف الفاضل لأنك لم تخبرني بذلك!! لأني لطالما أحرقت فؤاد هذا الطالب المسكين دون أن أكون شاعراً بذلك حين أتحدث عن موضوع بر الوالدين مثلاً، أو أن أرشد الأطفال لتقبيل يد آبائهم والمزعج هو أن أمنح الجوائز لمن يقوم بفعل ذلك أمام هذه الطفل الممزق الأنفاس موتور الإحساس ..!، أليس الوعي يجنبنا خطر زيادة الصدمات على هذا المظلوم الذي لا يعلم من أين يستقبل اللكمات هل من الشارع أم من بيته أم من المعلم !، ولا أبالغ عندما أقول أنه قد يستقبلها من الحفلات المنظمة لهم، بل حتى من لوحة هذه المؤسسة التي نقش عليها أن تكون تحت مظلة الرعاية الاجتماعية، فكيف بمن يسومهم سوء العذاب حين يرميهم بأبشع الصفات ليلحقهم بأقسى النكبات، بل ويصرح لهم في ذلك بأنهم نتاج علاقة غير شرعية!!، .. لقد رأيت فيهم المبدعون .. وأقولها بكل صراحة، وأنا مسئول عما أقول .. إنهم مبدعون، ففيهم الشاعر والرسام والقيادي والعالم، فهم جوهرة إن لم تصن وتوجه وتحاط بأسوار الأمن والثقة والانتماء .. فإنه وبكل تأكيد سوف يكونوا قنبلة موقوتة على البيئة بشتى أنواعها طبيعية أم أسرية أم مدرسية أم مجتمعية»