يد لا تعرف إلا العطاء، وقلب لا يعرف إلا الحب، ووجه دائم الإشراق والتبسم، سهلة مهما عاركتها الصعاب، بلسم يرطب كل عسير، أنشودة تحت مستويات الصوت المسموع، وفوق مستويات الخيال والتصور، وعلى حين غرة رُفعت اليد وعطاؤها، واستوحشت الدنيا ظلاما وخوفا، واستأسدت الصعاب، وتبدل الحنان، بنوح ورقة كسيرة على شجرةٍ جرداء، في ليلة تبرق وترعد. رحلت أمي وانطفأ في عالمي كل جميلٍ كان يجمل بطيف وجودها، فلما رحلت تغير كل ما لذ إلى مرٍ كالرياحين، ريحه حلو وطعمه مر، كانت البساطة بين يديها نعيما، وحضنها كان ملجأ من العالم الأليم.. رحلت أمي فرحلت السعادة وفارقت أسبابها. رحلت أمي، وكنت البادئ بالرحيل منذ عامين وفي أملي أنها لن تتجاوز العامين أو تزيد بقليل، إذ خلفتها - مرغما - أمشي في مناكب الأرض، أسعى خلف شهادةٍ كان بإمكاني أن أحصلها داخل موطني، وها أنا قد أوشكت على امتلاكها، كانت تحلم كل يوم برؤيتي سعيدا بحلمي، كان بإمكاني الانسحاب بين الفينة والفينة لأعود إليها، وليتني فعلت، لكني آثرت المجاهدة في التحصيل لأعود إليها عودة دائمة بأسرع وقت، حتى انفرط عقد السنوات وتتابعت. أدهشتني الانتصارات في غزوة الجامعة، وأسر الشهادات، وتحصيل غنائم المسابقات، لأقر عين الإدارة التي أرسلتني، وإلا تحويلي من مدرسٍ إلى كاتبٍ إداري، تلك المعارك التي برغم انتصاراتي فيها، خنقني تراب الوغى منها، وتحملت ضرباتها الموجعة، وأخذُها مني على حين غرة، أكثر من مرة. اندفعت بكل عزمي وجهدي، واكتشفت فجأة أن البقاء في ماضي من نحب، قد يكون أكثر إسعادا من المستقبل الذي نحب، أدمنت البقاء بأروقة الجامعة ومكتبة الضاحية حيث دراستي، وعندما شارفت عودتي كما وعدتها، غادرت هي بلا رجعة، وتركت لي قادم أيامي ليلة عزاء طويلة، صرت أخشى الليل بأنجمه التي استحالت إلى مصابيح ذاك العزاء الذي لا ينقضي، حتى الحياة أضحت صماء مصمتة. الآن زالت الغشاوة واتضح الأفق، لو كان العمر بيدي لاقتسمته معها حتى إذا حلت ساعتها كانت فيها ساعتي، رحمك الله يا ابتسامة الزمان وعلم التاريخ، ورواء نفسي، لا يشاركها في ذلك سوى والدي الذي هامت الروح بعد فقده فكانت أمي الملجأ بعد وفاته، والآن رحلت وبقيت وحدي.. أحيا بعقلٍ وجِل، وطموحٍ بلا أمل، فلا قلب يمد بالحب، ولا صدر يقي الخوف، ولا عطر ينعش الحياة، فقد رحلت أمي.