مَنْ أراد ان يرى انتقال الريادة من الغرب الى الشرق يستطيع أن يشاهدها في جيبوتي الدولة الأفريقية الفقيرة القاحلة والمنسية على ساحل البحر الاحمر التي أضحت الآن شريكا استراتيجيا للصين. القوى الغربية كانت موجودة هنا منذ اكثر من قرنين، الى أن جاءت الصين مؤخرا فأقامت ميناء حديثا للحاويات في دوراليه. ووفرت الصين فرصا للعمل لأول مرة غير صناعة الملح والرعي للجيبوتيين في منشآت حديثة ومنطقة تجارة حرة يجري انشاؤها في نيكولاس. في جيبوتي لا يوجد نفط ولا أي موارد معدنية قيّمة، فالأرض هنا صحراوية وصخرية ساخنة وجافة. عاش سكان هذا البلد الصغير حتى مطلع القرن الحالي كبدو رحل، حيث تتعايش الإبل والماعز مع الناس والتغييرات الجديدة في شوارع العاصمة. ثروة جيبوتي وما تملكه هو موقعها الاستراتيجي، فهي تطل على أحد أكثر ممرات النقل البحري نشاطا في العالم، حيث تمر العشرات من ناقلات النفط والسفن والحاويات التي تمضي عبر مضيق باب المندب، ثم قناة السويس بين شرق العالم وغربه. وأغرى هذا الموقع الإستراتيجي الصينيين بعد الاوروبيين، فجاءوا بشركاتهم ومصارفهم وقواتهم العسكرية ايضا. واقامت الصين رأس جسر عسكري في واحد من أهم بوابات افريقيا. أما الذين سبقوا الصينيين فهؤلاء قدموا من ثلاث قارات، وما زالوا موجودين بقواعدهم العسكرية في جنوب العاصمة الجيبوتية بينهم الولاياتالمتحدة واليابان وإيطاليا وفرنسا القوة الاستعمارية السابقة، التي كانت تهيمن على هذا البلد. استطاع رئيس البلاد اسماعيل عمر غيلة تحقيق الاستقرار والانفتاح في منطقة تسودها النزاعات وتتكالب عليها القوى العظمى المحافظة على السلام. في جيبوتي توجد ثلاث سلع يبحث عنها العالم، مكنت هذه الدولة من جذب هذه القوى لتتنافس على أرضها، وتوفر بالمقابل لمواطنيها فرص العمل والانتقال الى حياة عصرية تتطلع اليها شعوب المنطقة. وفي مقابلة مع مجلة جيون افريك الفرنسية مؤخرا، قال الرئيس الجيبوتي: «الامريكيون يقولون لنا ان الوجود الصينى يعوق عملياتهم، ومثلهم يعبر اليابانيون عن الكثير من القلق»، لكن غيلة بدا غير مهتم بهذه المخاوف، فقد استقبله الرئيس الصينى شى جين بينج في بكين نوفمبر الماضى واسبغ عليه كرم ضيافة توجت باتفاق على اقامة «شراكة استراتيجية» بين بلديهما رغم أن احدهما يحكم شعبا يزيد على مواطني بلد الاخر بأكثر من الف واربعمائة مرة. وبالاضافة لمنطقة التجارة الحرة وميناء دوراليه تمد الصين أحدث خط سكك حديدية من إثيوبيا الى جيبوتي المنفذ الوحيد، الذي يربط اثيوبيا بالعالم، وكذلك خط مياه عذبة للشرب لجيبوتي. وتستثمر الصين ضمن استراتيجية متكاملة في بناء الموانئ والطرق وخطوط السكك الحديدة والمراكز التجارية في آسيا وافريقيا، بل وفي أوروبا تحت شعار «حزام واحد.. طريق واحد» مستهدفة تشكيل منطقة اقتصادية متشابكة هي في حقيقتها مشروع جيوسياسي. وتتم هذه الاستثمارات في منطقة نفوذ غربي قديمة حيث اقامت الصين فيها بالقرب من ميناء دوراليه قاعدة عسكرية هي الاولى خارج آسيا، وقالت انها «لتوفير الدعم اللوجيستي للاسطول الصيني». اما الهدف الحقيقي فعبرت عنه صحيفة جلوبال تايمز الصينية في تقرير لها قائلة «من الطبيعي أن تكون القوات الصينية المتمركزة في جيبوتي على استعداد دائم للقتال»، مشيرة الى استثمار بكين اكثر من مائة مليار دولار فى افريقيا. «وان واجب الجيش» حماية مصالح الصين فى القارة.