في خضم الحديث عن أزمة كوريا الشمالية والخطوات الحثيثة من جانب كوريا الجنوبية للحيلولة دون وقوع كارثة نووية وتحقيق نوع من الاستقرار بين أبناء الشعب الواحد، يتجلى الإحساس المتبادل بعدم الثقة في قصة الانفصال المأساوية الوحيدة عالميًا على جانبي الحدود بين الكوريتين. ولكن يبدو أن تحولًا مهمًا طرأ مؤخرا وهو النشاط الرياضي المشترك لكليهما في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي تستضيفها مدينة (بيونج تشانج) بكوريا الجنوبية الشهر الحالي، والذي بدوره قد يمهد الطريق أمام حدوث انفراجة في علاقاتهما المتوترة. والواقع أنه خلال الثلاثين عامًا الماضية، وهي الفترة ما بين آخر دورة للألعاب الأولمبية تستضيفها سول في عام 1988 ودورة الألعاب الحالية، ظهرت فروق شاسعة بين كلا البلدين في شتى المجالات. وفي ظل هذه الأجواء ربما يكون من المفيد استعراض الآفاق الاقتصادية لكليهما سعيًا إلى استلهام بعض الدروس المفيدة. في كتابه (الأمم الناجحة) الصادر في عام 2012، يشير الكاتب والخبير الاقتصادي (روشير شارما) إلى أن هناك دولتين فقط تمكنتا من إحراز معدل سنوى متوسط يزيد على 5% على مدار خمسة عقود متتالية وهما كوريا الجنوبيةوتايوان. ونوه شارما إلى أن المسيرة الاقتصادية لكوريا الجنوبية ربما تكون الأكثر إثارة؛ لأنها على عكس تايوان -التي لا تزال منكبة على التصنيع والتجميع منخفض التكلفة- تمكنت كوريا الجنوبية من الانتقال إلى اقتصاد ما بعد الصناعة بكل سهولة، وتوطين صناعات مثل الالكترونيات الاستهلاكية والتكنولوجيا الحيوية والروبوتات، بعد أن كانت واحدة من أفقر بلدان العالم. وتشير مجلة (وات إنفستمنت) البريطانية إلى أنه وبشكل ملحوظ، يشهد اقتصاد كوريا الجنوبية -رابع أكبر اقتصاد في آسيا- منحنى تصاعديًا، بعدما شهد أكبر دفعة نمو في غضون سبع سنوات خلال الربع الثالث من العام الماضي. وبحسب المحللين، فإن الزخم الذي تمخض عن الطلب العالمي على الإلكترونيات الكورية الجنوبية، قد نجح في التخفيف من آثار التوترات الإقليمية. ونوهت المجلة إلى أن زيادة الطلب العالمي الحالية على رقائق الذاكرة ساهمت في التخفيف من التأثير السلبي على السياحة وتجارة التجزئة. وتشكل رقائق الذاكرة 17% من صادرات كوريا الإجمالية، بينما تصنع كوريا نحو 60% من الإنتاج العالمي. ورغم ذلك لا يمكن إنكار حقيقة أن المخاوف الأوسع بشأن الاستفزازات العسكرية لكوريا الشمالية ما زالت تضر بالأعمال التجارية. وبحسب المجلة فقد أشار المحللون إلى أن النمو يسير الآن على الطريق الصحيح للوصول إلى توقعات البنك المركزي الرسمية والتي تقدر بنحو 3%. بيد أن البنك المركزي حذر في الوقت نفسه من أن التوتر الحالي مع الصين على خلفية نشر سول لنظام (ثاد) المضاد للصواريخ قد يقلص بدرجة طفيفة النمو الاقتصادي للبلاد. ومن المعلوم في هذا الصدد أن بكين فرضت مقاطعة على المنتجات الكورية، كما قلصت عدد السياح الصينيين لكوريا وهو ما أضر بالفعل ببعض قطاعات الاقتصاد الكوري، رغم أن شحنات المنتجات الأخرى مثل رقائق الذاكرة ظلت قوية. والواقع أن الصادرات التي تمثل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي لكوريا، سجلت نموًا مطردًا على مدار الأشهر القليلة الماضية فيما يعد -من حيث القيمة- أكبر توسع لها منذ عام 2001. وترى وزارة المالية أن القوة الدافعة للتعافي الاقتصادي ستستمر خلال النصف الاول من العام الحالي ويرجع ذلك جزئيا إلى دورة الألعاب الأولمبية الشتوية والتي ستضيف للاقتصاد الكوري نحو 61.3 مليار دولار، فضلا عن التوقعات الإيجابية بشأن تخفيف حدة التوترات التجارية على مستوى العالم. وأضافت الوزارة ان دخل الفرد السنوي لكوريا الجنوبية سيصل إلى 32 ألف دولار بنهاية عام 2018، إذا واصلت العملة الكورية (الوون) تداولها عند مستوى 1.083 وون مقابل الدولار الامريكي. وهذا من شأنه أن يضع البلد فوق عتبة ال 30 ألف دولار بالنسبة للدخل الفردي، لتضم إلى قائمة الاقتصادات متقدمة النمو. وفي المقابل تعاني كوريا الشمالية، من أزمة اقتصادية خانقة في ظل العقوبات الدولية المتواصلة. وتشكل المنسوجات والفحم والمأكولات البحرية الجزء الأكبر من جملة صادرات كوريا الشمالية، والتي تعد المساهم الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي. ورغم أنه من المستحيل في الوقت الحالي قياس مدى تأثر الصادرات، يتوقع بعض المحللين أن تكون أسعار الصادرات قد انخفضت بنسبة تصل إلى 30 في المائة خلال عام 2016. وعلى وجه الخصوص، تراجعت الصادرات إلى الصين -أكبر شريك تجاري لكوريا الشمالية- بنسبة تصل إلى 35%. وفي العالم الماضي سجل نصيب الفرد من الناتج القومي الإجمالي في كوريا الشمالية 1342 دولارًا أمريكيًا -أقل من 5% من نظيره في كوريا الجنوبية-. وفي حين سطرت كوريا الجنوبية واحدة من أعظم قصص النجاح في العالم، لا تزال كوريا الشمالية تعاني الجوع والمعاناة.