مما رددته الأجيال قولهم: (حب الوطن من الإيمان)، وهو قول يقترب من الواقع في كثير من معانيه؛ لأن حب الوطن نوع من الإيمان بأهميته، وما يشكله من مرجعية ثقافية وتراثية وإنسانية ووجودية لا يمكن نسيانها أو تجاهلها، كما أنه مبدأ لا يمكنه قبول التنكر للوطن أو الإساءة إليه، كل ذلك يحقق الانتماء للوطن، بما يعنيه هذا الانتماء من فداء وتضحية وإخلاص وتفانٍ في الذود عن حياضه، وقد ترجم كل هذه المعاني قول القائل: (وطن لا تحبه.. لا تستحق العيش فيه). وفي هذه الجملة اختصار لكل ما يمكن أن يقال عن حب الوطن والانتماء إليه والإيمان بوجوب الدفاع عن منجزاته. وحب الوطن لا يحتاج التعبير عنه إلى أي ظرف طارئ مهما كان تأثير هذا الظرف الطارئ على الفرد أو الجماعة، لأنه حب يجري في شرايين كل مواطن، وحياة يمارسها كل مواطن، وتفكير يشغل ذهن كل مواطن، بدرجات متفاوتة تتأثر بمستوى الشعور حيال الوطن، وهو شعور يتنامى بقدر ما يقدمه الوطن لمواطنيه، مع أنهم ليسوا ملزمين بتبرير هذا الحب لأحد، فهو حب غير قابل للمساومة أو الابتزاز، لأن الوطن مهما قسى على أبنائه يظل في نفوسهم أبيًا وشامخًا وعزيزًا، ومن هذه القيم يكتسبون مكانتهم بين الأمم، وعزتهم بين الشعوب، ويحققون انتماءهم لمبادئ الخير والمحبة والجمال، التي يمثلها الوطن، ومكاسب الأمن والاستقرار والسلام التي يقدمها الوطن لأبنائه. أما الذين يسيئون لأوطانهم فإنهم في الحقيقة يقدمون نموذجًا سيئًا لما يمكن أن يمر به الإنسان من ضعف عندما يسلم قياده لغيره، وهو انحراف أخلاقي أعيا من يريد علاجه، لأنه حماقة اختيارية، وهو كما قال الشاعر: (لكل داء دواء يُستطب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها). فمن المؤسف والمؤسف جدا أن يُقدم إنسان ما على الإساءة لوطنه، وفي ذلك ما فيه من تخاذل وانهزام وضعف، انهزام أمام النفس التي تأبى التضحية، وتخاذل عن القيام بواجب المواطنة بشروطها غير القابلة للمساومة، وضعف عن القدرة على حماية المكاسب الوطنية والدفاع عنها بعزيمة لا تلين، وقوة لا تعرف الضعف.. وقد تهون الإساءة إذا صدرت من جهات عرفت بعدائها التقليدي للوطن، إذ لا يمكن لتلك الجهات البائسة أن تقدم غير الإساءات، لكن.. أن تصدر هذه الإساءات من بعض المواطنين الذين سهل على الأعداء تضليلهم، وتحييد عقولهم، وطمس بصائرهم قبل أبصارهم عن معرفة الحقائق المعاشة على أرض الواقع والتسليم بالأوهام المعششة في عقول الأعداء، فهذا ما لا يمكن القبول به تحت أي ظرف أو تبرير أو تسويغ أو تلاعب بالألفاظ والعبارات، أو استغلال للشعارات الزائفة، وما أكثرها وما أسهل اختلاقها لدى المتاجرين بقضايا أوطانهم من أجل مكاسب شخصية، هي ومن يقف خلفها أو يبررها.. إلى زوال، مادام الوطن في قلوب أبنائه.