(تلك حياتي، لم تربطني شجرةٌ بوتدها، ولا رميتُ حبالي في بئر، نثرتُ زوّادتي ومضيتُ بثوبٍ واحد). هذا هو أحمد المُلا بكل وضوح.. يزرع في كل بستان شتلة، ويمضي ميممًا نحو مساحة أخرى للغرس حتى تتضوع بإبداعه وحسّه الجمالي.. فمعه لا تستقيم المناهج البنيوية في عزل النصوص عن مبدعيها وتعيقنا موانع عديدة، أبرزها أن نصوصه مرآة تعكس ذاته، وتنطبق عليه وحده ك«ثوبه الواحد» الذي فُصّل على مقاسه. هذا هو الرأي المجمل، أما التفاصيل فتفضح القراءة الواحدة، وتثبت عكس ذلك.. ضع جميع نصوصه على طاولة واحدة وتعقب في ثناياها أثر قفزاته الرشيقة طوال مسيرته الإبداعية والمليئة بالمشاريع وأحلامه التي يجيد تجسيدها في أنشطته الثقافية، وستجدها مرسومة هناك على شكل أماكن يتشارك فيها مع مبدعين آخرين. لهذا نجده في نشاطه الأخير -جمعية ثقافة وفنون الدمام- وقد ابتكر مفهوم «البيوت» كإطلالات رحبة على الذات وصور مصغرة تختزل الوجود البشري والعالم النفسي حسب تنظيرات باشيللر للأمكنة. ففيها تتساكن ذوات متشابهة لتنتج أعمالًا متفردة، وتلمح فيها المُلا متنقلًا بين تلك البيوتات مهما اختلف توجّهها؛ لأن الجامع بينها حساسيته الشعرية وخبرته الجمالية، ومفهوم الثقافة العريض الذي يؤمن به ويراهن عليه. دشّن سابقًا بيتًا للموسيقى، وأسس قواعد بيت الشعر، ووضع لبنات لبيتي المسرح والسرد.. ورحل.. أما بيت السينما فهو من سيقيم فيه -كما أعلن من قبل- ولن يغادره؛ لأن بعض البيوت في مفهومها ترمز للبطولة والمواجهة، كما يقول فيلسوفنا سالف الذكر شيللر. إذن سيمضي أحمد المُلا بعيدًا عن جمعية الثقافة والفنون بصفته إداريًّا، لكن المؤكد أنه باقٍ بين أرجائها كشاعر وفنان مرهف الحس تجاه الإبداع.. فلن يغيب عن ذاكرتي أبدًا رعشة جسده عندما انتفض بعنف لسماعه نصًّا لأحد شعراء المهرجان الأخير في دورته الثالثة، ساعتها كان متجهًا إلى خارج القاعة في مهمة مستعجلة، واستدار بعنف واتخذت ملامحة دهشة الطفل وانبهاره! أؤكد لكم أن هذا البيت أيضًا لن يغادره أحمد، بالرغم من البيوت التي سيبنيها مستقبلًا.. شكرًا أحمد المُلا.