يبدو أن التغريب الذي عاد علينا جراء الطفرة التقنية والتكنولوجية غير المسبوقة والتواصل الكبير بين أطراف العالم بات له أثر رجعي إيجابي أكثر من جيد على بلداننا المحافظة المتمسكة بالعادات والتقاليد، فكلما اشتد التغريب اشتدت معه العودة للفلكلور الشعبي والتراث الحضاري والمواريث المجتمعية والقبلية في مجتمعنا وهي التي تحافظ على التوازن حتى لا تتم سرقة هويتنا. ف«أمة بلا متاحف هي أمة بلا ذاكرة» بحسب الكاتب والباحث الفرنسي ومدير متحف اللوفر في زمن نابليون بونابرت (دومينيك ڤيڤانت)، تلك الحقبة التي أوجدت المتاحف بصورتها الحالية وكان له الفضل الكبير في أن يصبح متحف اللوفر أعظم متحف عبر التاريخ ولا يزال، لذا فإن الاهتمام بالمتاحف في موجة التغريب الهائلة هذه أمر فيه الكثير من الحكمة ثم إن للمتاحف صيغا من التراث والثقافة التي تجعل الأمة التي تهتم بتأسيس وبناء ورعاية متاحف في ديارها هي أمة حاضرة في كل مراحلها الماضية والقادمة. وتعمل حكوماتنا جاهدة على تعزيز هذا الأمر، وهو شيء لا بد لنا من التوقف عنده، في ظل الاستعداد لزيادة أعداد المتاحف العامة والخاصة في بلداننا وهو أمر مشجع ويثير الحماسة للمرحلة القادمة. لعل أبرز حدث من هذا النوع لهذا العام هو اختيار إدارة متحف اللوفر افتتاح متحف اللوفر الفرنسي في إمارة ابوظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة كأول دولة حتى ابريل القادم، هل نصدق أن ما يفصلنا عن متحف اللوفر أقل من ساعة طيران وجو مشمس وحار صيفا ودافئ ممطر شتاء؟! من غير التعرض لثلوج باريس ولفحات البرد والتنقل الطويل الذي لم نعتده؟! وثاني أبرز حدث هو إعلان المملكة العربية السعودية عن افتتاح 32 متحفا فيها خلال المرحلة القادمة والسماح بالتأشيرات السياحية، انه الاختلاف الذي توجده السعودية في طفرتها غير المسبوقة وتخطي المراحل بل حرقها. أجد في الأمر شروعًا للدخول القوي ومنافسة الكبار، فما يتم هو بداية لمرحلة السياحة المنضبطة والعائلية في شبه الجزيرة العربية واستغلال الصحراء والجِمال والصيف للتسويق وتحقيق حلم مواطني الدول الباردة! مثلما استغلت مصر الجَمل كأيقونة عربية وفلكلورية لسياح الجزيرة!، تختلف مصر بشواهدها وحضاراتها واهراماتها، وتختلف شبه الجزيرة بكل تاريخها وبخصوصية البيت العتيق فيها وبأرضها الصحراوية ذات الطقوس القاسية التي تبقى حلم المسلمين النائين كذلك. الفارق أن تكون أرض الحرمين «وجهة المسلمين» قدوة في نشر ثقافة اسلامية ذات بعد ثقافي وحضاري وتقني واستثماري، هنا تكمن الصعوبة، وهنا يكمن الاختلاف والنجاح، أن نوظف كل تلك العناصر (الثقافة والحضارة والتقنية ورؤوس الاموال معا). اليوم جميع دولنا الخليجية بلا استثناء لديها إرث يشاد به في صناعة السياحة المتحفية، ولكل بلد خليجي متاحفه ومرافقه السياحية والفلكلورية التي يتم الاعتناء بها عناية فائقة وتطويرها والترويج لها، هذا الأمر في صناعة السياحة في بلادنا الخليجية نوعي بخلاف السياحة بصورة عامة والتي تحتاج للكثير من المقومات فهل نستغل ذلك؟! لعل الاستثمار في المتاحف يعتبر مشروعًا له أرباحه ليست التجارية وحسب انه يوفر أرباحًا مادية وتاريخية وحضارية وتنموية وتوعوية، ويساهم بشكل كبير في أن يكون انعكاسة لخط الدولة الممتدة في عطائها نحو بناء قمة حضارية توازي ما كانت عليه، إن المتاحف تبني أجيالًا من المثقفين الواعين وتاريخًا من التراث وسياحة نظيفة ومقبولة. ولنتعلم من متحف اللوفر الفرنسي كيف تحول من وقف حكومي لمشروع سياحي قائم بذاته وصنع له اسمًا وشاهدًا وبات اليوم علامة عالمية يدير سلسلة مطاعم وقاعات محاضرات وحفلات ودور الأزياء الكبرى، وتنظيم ورش عائلية لبعض الهوايات والممارسات العائلية، لقد صنعه أشخاص محبون لوطنهم وأكمله أشخاص محبون كذلك. الأمر يحتاج لابتكارات تتناسب والروتين الخليجي وتتماشى مع العرف هنا، فالجميع لديه الاستعداد للتسكع في مثل هذه الرواقات الفارهة التي توفر له تغييرًا يحتاجه الفرد الخليجي بكل تأكيد.