بعد سبات عميق ولعله صحي! تستقبل المدارس غدا الطلاب والطالبات على مختلف المستويات الدراسية، وقد سبقهم إلى قلاع التعليم (المدارس والمعاهد والجامعات) المعلمون والمعلمات. وتزامن مع عودة المعلمين حملة للحديث عنهم، والبعض يحسدهم أو يغبطهم لطول الإجازة، والبعض الآخر ربما يلمزهم!، ولكن لو لم يكن لهم شأن وقيمة لما حسدهم هؤلاء ولمزهم أولئك. وكما قيل: الشجرة المثمرة هي التي تُرمى بالحجر، وهم كذلك لأن بين أيديهم عقول الأجيال الحالية والقادمة، أفلا يكون هذا دليلا واضحا على قوة دورهم وأثرهم في أي مجتمع؟!. ويذكر أن اليابان تبالغ بالاهتمام بالمعلم من الناحية المعنوية والمادية لأنهم يعتقدون أن له دورا مهما في النهضة والتنمية. يطلق لقب المعلم الأول على أرسطو، وقد تأثر به كثيرا الفاتح الشهير الإسكندر المقدوني لأنه كان تلميذه، ولكن أرسطو تعلم علي يد أفلاطون، وأفلاطون كان من تلاميذ سقراط. الفائدة من هذا التسلسل التاريخي أن ثلاثة أجيال تأثروا بمعلم واحد وهو سقراط، فهل هو «أبو المعلمين»؟. سقراط كان معلما مؤثرا في أجيال متعاقبة، وكانت مهمته الرئيسة هي تحريك العقل البشري عن طريق التفكير حيث كان ينزل إلى الأسواق وتجمعات الشباب والناس عامة ويطرح عليهم التساؤلات. فلو قلت له مثلا: أني أكره فلان، فهو لن يخوض معك في فروع المشكلة، بل سيبدأ النقاش بسؤال بسيط ينطلق منه إلى ما هو أكبر. سيقول لك: ما تعريف الكراهية؟، وبعدها سوف تبدأ المناظرة والنقاش بسيل من التشبيهات والأمثلة. وهذا هو نظام التعليم القديم الحديث حيث ليس مطلوبا من المدرسة أو الجامعة أن تعلمك شيئا عن كل شيء، فذلك أصبح سهلا جدا مع عالم الإنترنت. إذا المسألة هي ليست في الكم المعرفي، بل هي في تحريك العقول وطرح التساؤلات، ويقول آينشتاين: أهم شيء هو أن لا تتوقف عن التساؤل. الأمر الآخر أن كثرة تساؤلات الطالب في علم معين سوف تقودنا إلى معرفة ميوله وموهبته منذ البداية، وهذا هو بيت القصيد كما يقال، سواء أكانت تلك الميول في الأدب أم العلوم أم التقنية والاتصالات أم البرمجيات والكمبيوتر أم غيرها. ولكن في المقابل لابد أن يكون المعلم كالفيلسوف للطلاب. والفلسفة ببساطة هي البحث عن الحكمة، وهل تأتي الحكمة إلا عن طريق التأمل وإعمال العقل. بمعنى ممكن أن يكون المعلم فيلسوفا يحبه الطلاب ويحترمونه، كما أحب أفلاطون معلمه سقراط، واحترام أرسطو معلمه أفلاطون، ولكن هذا الحب والاحترام لا يعني التبعية في كل شيء، وكما قال أرسطو في كتاب الأخلاق: «إن أفلاطون صديق والحق صديق ولكن الحق أصدق». إذًا مهمة المعلم عبر العصور هي حث الطلاب على ألا يتوقفوا عن التساؤلات مثل: (لماذا وكيف) طوال حياتهم. ولنا أيضا في قصة موسى عليه السلام خير عبرة ودليل حيث ظل يتساءل مع الخضر طوال الرحلة. بل، فوق ذلك كله والأهم أن القرآن الحكيم جاء في كثير من آياته بكلمات مثل: أفلا يتدبرون، أفلا تعقلون، أفلا تتفكرون، أفلا تبصرون والتي تحث على عمق التفكير والتساؤلات المنهجية المثمرة. التعليم هو القاعدة الأساسية للتنمية والبناء، وفي هذا الشأن قال غازي القصيبي -رحمه الله-: التعليم ثم التعليم ثم التعليم. ولعلي أقول إن قلب التعليم هو: المعلم ثم المعلم ثم المعلم ولو كان في الكتاتيب! وببساطة أكثر، فإن صناعة المعلم هي صناعة للحضارة.