حين يُفقدُ أحدُهم لا تدري من تعزي!! أهله أصبحوا جزءا من ألوف الفاقدين، وربما الملايين. هكذا يُحلق الفقد المبدعُ فوق سفوح الموت البور، حيث تموت مع الشخوص حتى الأسماء. في الضفة الأخرى قبور تتشهى المساكنُ المأهولة بالبشر أرج روائحها الفاتنة. لا موت في الموت الذي يحيا به صاحبه أكثر من حياته حين كانت الروح مؤتلفة مع الجسد. أولئك الأنقياء الذين عاشوا حقيقة الحياة أكثر من محاولات فلسفتها التي ضاعت فيها أعمار الفارغين من العمل الخالد. كثيرون لديهم أموال طائلة مثل أموال محمد بن إبراهيم السبيعي رحمه الله أو أكثر منها، ولكنهم لم يتعلموا فن التشكيل الرباني لهذه الأموال، وكيف تتحول إلى إعمار للأرض، وظلال يوم العرض، حين تمتدُ سحائب الظل امتداد العطاءات المتدفقة من النفوس التقية السخية. كثيرون لديهم عمارات وقصور وبنايات، ولكن ليس بينها مسجد لله، ولا مستشفى لخلقه، ولا مأوى لأيتام، ولا معهد لطلبة علم، ولا مركز لإصلاح ذات البين، ولا دار لتعليم القرآن. ختم الشيخ المحسن محمد السبيعي حياته بعد أكثر من قرن من الزمان، بدأه بالفقر، وثنى باليتم، وثلث بالأعمال التي لا تعود عليه بأكثر من ريال واحد في اليوم، ولكنه ربع بالثراء. ولم يكن الغنى آخر المحطات، كما هو شأن كثير من المحرومين، بل كان إحدى المحطات التي لم تُنسه ما سبقها، وأهلته لما بعدها، وهو العمل الخيري المؤسسي، حين أسس مع أخيه الشيخ عبدالله (مؤسسة السبيعي الخيرية) التي تعد اليوم من أبرز وأهم المؤسسات المانحة في الشرق الأوسط. بل لم تعد مانحة فقط وفق المعايير العالمية، بل أصبحت تمتلكُ نظاما خاصا في الجودة والتميز المؤسسي، وكانت ولا تزال في طليعة المؤسسات المتبنية لمأسسة الجهات الخيرية بشتى تخصصاتها وتطويرها، سواء أكان ذلك في بنائها المؤسسي أو في بناء مشروعاتها، أو حتى في دعم التنفيذ والتشغيل. (105) سنوات مكتظة بالكفاح الفردي العصامي، والعطاء الفذ، كان فيها اليتم زوادة وذخيرة لم تنفد حتى بعدما تجاوز مرحلته، فقد كان الشيخ حين يرى اليتيم والمحتاج، يرقُ لهما، ويسعى في حاجتهما، متذكرا يتمه وحاجته. عظمة العطاء حين يكون منظما، شاملا، مستمرا، طيبة به النفس، لا يلحق به من ولا أذى.. وهكذا كان عطاء محمد السبيعي وأخيه عبدالله، فهو منظم، يتمُ عن طريق مؤسسة محترفة، وشامل لكل مناحي التنمية، العلمية والإيمانية، والصحية، والإعلامية، والاقتصادية، والتربوية، وغيرها، بنى المساجد والمستشفيات، وأنشأ المعاهد والبرامج التأهيلية الكبرى التي تبنت بعضها الدولة، وكفل الأيتام والأرامل والمعوزين، وليس لي أن أعدد هذه الأعمال أبدا، فهي أكبر وأكثر من أن تحصر هنا، وهو عطاء مستمر إن شاء الله تعالى، لأنه مبني على أوقاف ثابتة، وقد طابت بها نفسه، بل كان يزيد عليها من جيبه الخاص، وكان يُسرُ بها، ولا يحب أن يذكر بها، ومعاذ الله أن يلحق من مثله من أو أذى. عزائي لمحبي الشيخ محمد السبيعي، ولا عزاء لمُلاك الأموال الذين تُقبر أسماؤهم.. معهم.