- يمر الموت أمام الأحياء كل يوم وكل ساعة بل كل دقيقة وثانية.. فُرَادى.. وجماعات.. وكلما مرت جنازة.. لا نملك لميتِها عَدَا طلب الرحمة والدعاء له في أحسن الأحوال.. كما أن بعض الجنازات تحمل أجساداً كانت في عدَاد الأموات بدُنياها.. أو مجرد رقم من الأرقام العابرة أمامنا؟!!.. - لكن هناك من يُؤدي مَوته إلى فزع استثنائي بل وإلى مفاجأة غير متوقعة لدى بعض!! وكأن الموت في هذه الحالة لم يأتِ قبلاً!.. ولم يخطر ببال أحد.. من شدة هول الفاجعة.. «كأن الموت لم يفجع بنفس ولم يخطر لمخلوق ببال!».. - وهو ما ينطبق على موت- سلطان بن عبدالعزيز- يرحمه الله- الذي بموته.. تغيب عن أعيننا.. تلك الشخصية اللافتة.. والابتسامة النادرة.. والحضور المُميز.. عرضاً وجوهراً.. والمجد والسؤدد اللذان سَعَيا إليه ولم يسع إليهما!!.. لينتهي ذلك كله إلى جسدٍ مُجرد من كل المناصب والألقاب.. فيوضع في سُلم خشبي.. ملفوفاً بكفن موحد لكل ميت.. ثم يضعه أحبابه الكَثُر في حُفرة!!.. إنها حقيقة الموت.. التي أحسب أن سلطان بن عبدالعزيز- ودون أن أزكي أحداً على الله- كان- يؤمن بها بكل جوارحه!.. ليذهب من أروقة القلوب إلى منازل القبور.. - لقد ظل يُمثل فَرَادَة استثنائية.. بما مثل من جوانب إنسانية.. وَبَذلاً لأوجه الخير والعطاء.. تعامل مع أبناء شعبه بحنان الأبوة وعاطفتها.. ومع وطنه.. بالمرونة والعَصْرَنة!.. ومع تواصله المُستمر مع العامة.. خاصةً ذوي الحاجات.. ظل الكل معنياً به- يرحمه الله- دون استثناء.. كما ساهم مع خادم الحرمين الشريفين بجعل وطنه مكاناً آمناً ليس فقط لمن يرغب بالعمل لتحسين أوضاعه وظروفه المادية والعائلية.. وإنما أيضاً لبعض طالبي اللجوء السياسي والهاربين من بطش حكوماتهم!.. ليجتمع بحماية المملكة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وما بينهما!.. سواء ممن كانوا قادة وساسة في أوطانهم أو حتى ممن عَدَاهم.. عرباً ومسلمين بل وغيرهم!!.. - ولذا.. لا غرابة أن يظل لدى الخاص والعام مُحِباً ومحبُوباً.. تستأنس به القلوب والنفوس.. حيث كان بمثابة إطلالة ملاك.. وإشراقة مُحيا.. وابتسامة دائمة دون تكلف.. مُفعمة من قلبه العامر بالمحبة.. لتبقى مرسومة في القلوب منقوشة في الذاكرة.. خاصة لدى كل من قابله عَيَاناً- وكاتب هذه السطور أحدهم!!.. وكأن الشاعر عناه دون سواه.. حينما قال: - «كأنك من كل النفوس مُركبٌ فأنت إلى كل الأنام حبيبُ».. - بل إن الجوانب الإنسانية التي عُرف بها.. وصفاته الحميدة- المُتعددة.. كانت تدفعانه للانهزام أمام دمعة يتيم، وتحزنه آهة مُعاق- يرحمه الله- ولذا.. لا غرابة أن يَعُم الحزن لوفاته من في وطنه ومن في خارجه..! - قابلتُ- سلطان بن عبدالعزيز- لأول مرة منتصف عام 1983م بقصره العامر بجده- حاملاً له رسالة توصية من الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر- رحمهما الله- بخصوص طلبي التوجيه بمنحة للدراسات العُليا بالولايات المتحدة الأميركية.. وبعد قراءته للرسالة.. وضع سبابته اليُمنى على أنفه- ثم سلمها لمن كان على مقربة منه من المعنيين بمثل هذه الجوانب.. وما هي إلا أسابيع وتوجيه سموه قد وصل إلى وزارة التعليم العالي بضمي إلى البعثة السعودية بالولايات المتحدة الأميركية.. وهو ما تكرر أيضاً مع ابني الأكبر حمزة الذي درس إدارة أعمال بجامعة الملك سعود بتوجيه شخصي منه.. - ثم تعددت زياراتي لسموه بمناسبات مختلفة.. ومنها أثناء انعقاد الدورة الثانية عشرة لمجلس التنسيق اليمني- السعودي- بالمدينة المنورة بشهر ديسمبر عام 2000م بعد غياب لانعقاد هذا المجلس دام أكثر من عشر سنوات!!.. وكنتُ ضمن الوفد اليمني المُشارك.. برئاسة الدكتور/ عبدالكريم الإرياني- رئيس الوزراء الأسبق!!.. - فبعد انتهاء أعمال تلك الدورة.. وحينما وقفنا للسلام على سموه.. قال لي وقد لاحظ نحافة جسمي.. مُداعباً وأريحياً كعادته: «ماشاءالله على هذه الرشاقة» أجبته بصورة سريعة وخافتة: «الرشاقة بحاجة إلى عناية يا سمو الأمير».. ولم أقصد رغبة محددة.. بقدر ما أردتُ التفاعل بما قاله لي؟!!.. لأفاجأ بعد بضعة أسابيع باتصال تليفوني من سعادة سفير المملكة السابق باليمن الأستاذ - محمد مرداس القحطاني- يخبرني بوصول توجيه من مكتب الأمير سلطان- يتضمن إشعاري بالقيام بإجراء فحوصات طبية شاملة سنوياً بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض- على حساب سموه- يرحمه الله-.. وهو ما أحرص عليه سنوياً منذ عام 2001م.. - ورغم مفاجأتي مما حدث.. إلا أنني لم أشغل بالي بمدى بقاء سموه متذكرا! بما قلته، ولا بإخلاص وتفاني مَنْ حوله ممن يلتقطون توجيهاته وإشاراته في حينها.. فمثل هذه الأعمال الخيرة.. وبالصورة التي حدثت إنما هي ديدن أمثاله الكبار.. عرضاً وجوهراً.. - وفي نفس الوقت.. لا بُد من القول هنا.. بأن الفقيد الكبير- ومن خلال توليه ملف اليمن منذ أيام الملك فيصل- رحمهما الله- ينفرد بمعرفة الواقع اليمني سياسياً واجتماعياً وقبلياً.. ووجد في الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر- رحمهما الله- القيم اليمنية الأصيلة والمروءة.. ليُشكلا معاً علاقة ثنائية أوجدت العديد من المشاريع التنموية الهامة والمتنوعة في اليمن- خاصة بعد قيام مجلس التنسيق السعودي- اليمني الذي تأسس عام 1975م.. و.. تُوجت تلك العلاقة في إنهاء ترسيم الحدود بين البلدين الجارين الشقيقين عام 2000م.. كما كان لخلفية الأمير سلطان- يرحمه الله- حول اليمن دور في تعميم علاقاته وارتباطاته الشخصية بالعديد من الشخصيات والوجاهات اليمنية.. والتي كان يُلبي رغبات بعضها بحسب فهمه لها بالدرجة الأولى؟!!.. إضافة إلى دوره في إزالة بعض العقبات التي كانت ولا تزال تواجِه بعض اليمنيين المقيمين بوطنهم الثاني.. والتي قد تنطلق بمجملها من تطبيق بعض الأنظمة والقوانين المُنَظِمة للأعمال المهنية والتجارية وغيرها.. حيث كان- يرحمه الله- يُوجه بعض الاستثناءات انطلاقاً من عامل الجوار وغيره!!.. مع ثقتي المُطلقة- بقيام خَلَفه في إحياء سُننه.. سواء في مثل هذه الاستثناءات الخاصة باليمنيين أو بغيرها!!.. - وبقدر معرفتي بسلطان بن عبدالعزيز- يرحمه الله- كما أشرتُ آنفاً.. فقد عرفته أيضاً من خلال العديد من المشاريع التنموية المتعددة والمتنوعة في اليمن.. - عرفته من خلال- طريق الأمير سلطان- التي تربط بين مدينة تعز وجبل صبر المُطل عليها.. والتي باتت من أهم معالم مدينة تعز- وتخدم عشرات الآلاف- خاصة من القاطنين بالقرى المتناثرة على امتداد الطريق- ممن ظلوا محرومين من التواصل فيما بينهم عشرات السنين.. وهذا على سبيل المثال وليس الحصر.. - عرفته من خلال المنح الدراسية الاستثنائية والمنح العلاجية التي لا تقتصر على فئة دون أخرى.. بما فيها مدرس يمني- بجامعة صنعاء- «يساري» وكان يكتب ببعض الصحف ضد التوجهات السياسية السعودية وبصورة قوية.. فقابلته قبل سنوات بمستشفى الملك فيصل التخصصي بجوار زوجته التي كانت مصابة بفشل كلوي وهي تتعالج بنفس المستشفى بمنحة علاجية من الأمير سلطان؟!.. ولم أستغرب...! - عرفته من خلال أكثر من 18 ألف يمني مُعاق.. استفادوا من مشروع الأمير سلطان الخيري والخاص بالمُعاقين.. - عرفته من خلال ما قدم - يرحمه الله- لليمن على المستويين الخاص والعام- وعبر عطاء غير محدود بشتى المجالات.. - ثم.. عرفته من خلال (مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية) بكل ما تمثلها من أعمال إنسانية واجتماعية- بما فيها معالجة المرضى والتي لم تقتصر على جنسية دون أخرى.. لتتعدى أعماله الخيرية من الاهتمام بالإنسان إلى الاهتمام بالحيوان..! خاصة عبر دعمه لصندوق الحياة الفطرية ومشروع سموه الخاص بالمحافظة على الصقور!.. - عرفته من خلال جائزته الدولية لحفظ القرآن الكريم.. وجائزته الدولية للمياه.. - عرفته من خلال الموسوعة الفلسطينية، والموسوعة العالمية- الفريدة من نوعها.. نظراً لشموليتها لتاريخ الثقافة العربية والإسلامية- وعبر ثلاثين مجلداً-.. - عرفته من خلال المراكز الدراسية والبحثية داخل السعودية وخارجها.. - عرفته من خلال ما أقرأ دوماً عن قيامه ببناء المساجد والمعاهد والمراكز الصحية وحفر آبار المياه وغيرها في مختلف دول العالم!.. بجانب قيامه بإطعام الجائع، وكِسَاء العُريان، وإغاثة الملهوف.. - ولذا.. لا غرابة أن يُصبح معروفاً لدى الخاص والعام ب (سلطان الخير)- يرحمه الله-.. - فإذا أسكت الموت فقيدنا الكبير.. فإنه يستحيل عليه أن يُسكت مآثره الخالدة ومواقفه النبيلة وخدماته الإنسانية العامة ونجاحاته المعروفة في سبيل عقيدته ووطنه وأمته.. فهو سيظل بمثل هذه الأعمال الجليلة.. والتي هي غيض من فيض.. خالداً في القلوب.. و.. متجدداً في ذاكرة التاريخ.. وعلى صفحات الأيام.. - وما مشهد وفاته.. ثم تشييعه إلى مثواه الأخير بما مثله من حضور شعبي.. ثم.. رسمي- عربي وإسلامي ودولي.. ومآثر الحزن.. والنظرات الحزينة التي كانت هي لغة التخاطب بين المشييعين.. إلا بمثابة ثمرة من ثِمار الوفاء.. ودليل جَلي على مدى التفاعل الصادق بين القمة والقاعدة.. بجانب المكانة التي كان يحظى بها- سلطان بن عبدالعزيز- لدى قادة وزعماء العالم دون استثناء!.. - ثم.. بقدر ما كان- يرحمه الله- يعمل بصمت.. بقدر ما احتضنته مقبرة عامة وسط الرياض- بصمت- ليُواري الثرى- بمقبرة (العُود) تلك.. وفق شعائر الدين الإسلامي الخالد الذي لا مكان فيه لطقوس ولا مظاهر أو مسميات - ما أنزل الله بها من سلطان!.. - وعزاؤنا جميعاً في أسرته الحاكمة.. بقيادة خادم الحرمين الشريفين، وبأبنائه، وشعبه الأصيل.. ثم.. بوطنه الذي يتمتع بركائز استقرار.. وبمؤسسات رسمية ثابتة.. تؤكد الاستمرارية دون وَجَلْ.. خاصة عند انتقال السلطة من السَّلَف إلى الخَلَف.. والتي تتم عبر تماسك استثنائي.. وانتقال هادئ.. بعيداً عن التعقيدات والتأثيرات!!.. - طِبتَ حياً وميتاً- أبا خالد- ورحمة الله تغشاك.. فقد كنتَ استثناءً حقاً!.. بل كنت رجُلاً في أمة.. وأمة في رجل.. و.. هكذا.. عرفتك- يرحمك الله. يحيى عبدالرقيب الجُبيحي - كاتب صحفي- يمني