أصدق عمل يقوم به الإنسان هو عمل الظل، عمل لا يراك فيه من بني جنسك أحد ، وكثير هم أولئك الذين لايعلم من مناقبهم شيء إلا بعد مغادرتهم الدنيا، ولا يدرك من فضائلهم أمر إلا بعد رحيلهم. حين بلغني خبر وفاة الخال الشيخ عامر اللويحق على سفرة أحد الفضلاء في الحرم النبوي. أصابني هم عجيب لم أعد أتابع الإمام في صلاة التراويح حتى انقضت الصلاة، وتذكرت كم الشمائل والمزايا التي سنفقدها فيه، وكم استعرضت في مسيرته من مكارم، ومن قيم بدءا من حياة الشظف الأولى التي عاشها، ثم حياة التعلم ثم حياة البناء، ثم حياة العلاقات الطيبة، ثم الحصاد والنجاح، ثم فترة العطاء للوطن في مجلس الشورى ثم خدمة أبناء الوطن إلى أن أصابه المرض المميت. ولا أقول المرض الخبيث لأنه مظنة ابتلاء ورحمة وتمحيص، وبعد هذه المسيرة والنتائج المميزة والجني الطيب لم يتعال على من حوله، ولا على من تعامل معه، بدءا من موظفيه الصغار إلى زملائه الكبار. ازداد خلقه جمالا فوق جماله، وعطاؤه فوق عطائه، وشكر النعمة التي أبدلها الله له عن حياة العسر الأولى، فاقترب من الله أكثر، واتسعت رقعة ظله على من حوله، وكان ثمر زرعه دانيا، غرس في الأرض منابت الحياة للفقراء، وفي القلوب منابت الرحمة للضعفاء، وإن الله ليرزق من يشاء ويقدر وإذا أراد بمجتمع رحمة قيض له الرحماء وأمدهم بالمال والغنى لعلمه سبحانه أن من عباده من يستعمل الرزق في طاعته وساحته، فلا يفرق به المختار عمن أريدوا له ولا يستأثر به المنتقى لحجبه عما أهل به له، وإذا كان المال الذكي يعرف أين يتجه، فإن المال النبيل، يعرف أين يربو، وإن المرء ليعجب ممن يميل بهم المال، عن مقاصد جمعه، ومرامي رجعه، أولئك الذين فتنوا باختبار الإنفاق، وضنوا بشكر مواهب الخلاق، وإن من فاضل القول وأكمله أنما يبلغ الشكر حقه بالعمل من جنس العطاء، فإن شكر الله على المال ليكونن ببذله ومده وليس بحفظه وعده، وإن كل امرئ مؤتمن على ما أوكل إليه واستخلف فيه، هناك من يوكل اللهإليه الصحة ويريد شكرها بالعمل، وهناك من يوكل إليه الجاه ويريد شكرها بالعون، وهناك من يوكل إليه العلم ويريد شكرها بالتعليم، وهناك من وهبه الله المال لا ليعمر به الأرض صيتا وزهوا ولكن ليكون لمن ضيم بيتا وبهوا، وما من نعمة تكمل وتنمو وتزداد مثل العطاء بين المنفق والعباد. خرج الناس أفواجا لوداع ذلك الرجل النبيل الذي ازداد علوا بتواضعه ورفعة بترفعه، ذلكم الظل الصامت الذي لايتحدث كثيرا ولربما تحدثت يداه أكثر من حديث الشفاه، رحل مخلفا رجالا هم ابناؤه المهذبون، ورجالا هم أخوته الكرام، ورجالا هم أصدقاؤه الشرفاء ورجالا هم طلاب نعمته وفضله، وخلف أبناء ليسوا أبناءه، إنهم أبناء إنسان وحين دخل علينا في العزاء أربعة أطفال في التاسعة من العمر. يتساءلون عن ذلكم الرجل الذي أنفق عليهم منذ ولادتهم حتى الآن. تساءلوا عن ذلك الأب الخفي الذي تبناهم بالمال والعطاء ولم يروه، كان المنظر مؤثرا في تلك اللحظات، أثيرا عند من يعرف قيمة الإنسان وحاجته لأخيه الإنسان. الدموع التي ذرفت في ذلك المساء ما كانت إلا تصديقا لما تحدثه صدقة الظل من معنى مؤثر، وما يتركه عمل الخفاء من معنى نبيل راق، وازدادت الدموع شهادة وحضورا عندما أعلن الشاب النجيب والفذ الكريم سعود عامر ليعلن لأمين (جمعية إنسان) أن كل شيء عمله الوالد في حياته سيظل كما هو، بل سيزداد ليس لهذه الجمعية فحسب، بل كل عطاء كان منهمرا لن يتوقف جريانه، هكذا يوفق أولو العطاء والصدق بأبناء صادقين بررة مخلصين. رحم الله الشيخ عامر رحمة واسعة، فإنه لم يقدم درسا في البذل والخلق الكريم والحكمة والإيثار وطيب المعشر فحسب، بل فتح مدارس للنبلاء. وقفة: مثلك تمنوا في حياتك يكونون *** و في موتتك كلن تمنى مماتك ولوشفت أفواج الخلايق يعزون *** عزوا بعضهم فيك و الهم فاتك وأيتام لك بانسان جونا يبكون *** محدن درى عن موقفك غير ذاتك