لا يتصدى للحديث عن المبرزين إلا النقاد الكبار، ولا يقوم الشعراء إلا من أدركتهم «حرفة الأدب»، ولكل فن أهله، ومقالة واحدة لا تكفي في نظري للحديث عن سفر أدبي كبير في «ثلاثة أجزاء» لم يسبق أن طرحه أحد من قبل فيما أعلم، سطره ببراعه السيال.. أديب يحسن اختيار الكلمة، ويتذوق الأشعار، تطاوعه الحروف، وتنقاد له كالحمل الوديع كما قال الشاعر: ما كُلُ من هز الحسام بضاربٍ ** ولا كُلُ من أجرى اليراع بكاتبٍ اختار المؤلف الأديب الكتابة عن الشاعر البطل، وسيرته المقترنة بتاريخ دولة أبناء عمومته عام 470ه، وكما يحلو للكاتب أن ينعته «بالشاعر المعجزة»، وأحيانا «بالشاعر المغمور»، وتارة «بابن خلدون الأحساء» ليكون منارة للأجيال الحاضرة والمستقبلة، يدق فيها النواقيس، ويشير فيها إلى النواميس وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد. وبحق، لقد أنصف المؤلف هذا الشاعر العملاق المغمور، وجلى أفكاره، وترجم له، وكشف عن مكنوناته النفسية، وتضحياته، ومعاناته، وتطلعاته نحو المجد الذي لم يبلغه. وذلك بالرغم مما لاقاه من حرمان، وتشريد، وكان النصر حليفه في نهاية المطاف لكن بعد وفاته. ومما قاله المؤلف عن هذا «الشاعر العملاق»: إنه كان ذكيا بالفطرة، وتمحور هذا الذكاء في موهبة شعرية أصيلة فذة ولدت عنده الإحساس بالعظمة، والكبرياء، وعزة النفس، والتطلع إلى منازل المجد العليا. وكان للبطل من وجهة نظر المؤلف قضية محورية ذات طبيعة سياسية. ومرامي هذه القضية وملامحها مبثوثة في ثنايا شعره من مديح وفخر وحماسة وهجاء، وهو الشعر الذي ألقاه أمام علية القوم من أبناء عمومته وبثه أمام غيرهم خارج ديار وطنه. وتتلخص «قضيته» في تطلعه إلى الرئاسة والقيادة، وهو تطلع لم يلق ترحيبا من أبناء عمومته، وهو تطلع أجج من وهجه، بين الفينة والأخرى، حقدا دفينا ضده من أعداء ألداء لدولة أبناء عمومته لدرجة أن أبناء عمومته أنفسهم، وبتأثير من هؤلاء الأعداء، توجسوا منه خيفة. كان حساد «الشاعر المعجزة» من الكثرة في «الأحساء» وخارجها لدرجة أنهم تمكنوا منه، وأودوا به، عن طريق أبناء عمومته الذين كانوا أُذُنا مصغية للواشين والحاسدين والحاقدين. وهؤلاء الواشون والحاسدون والحاقدون من الكثرة في كل زمان ومكان. وهكذا ضاعت طموحات البطل في زوايا دسائس البلاط، وما كان يكتنفها، ويحيط بها من كيد ونميمة وحسد. ترك الشاعر المعجزة بعد وفاته إرثا ضخما في تراث أدبي.... ولقد كاد أن يندثر هذا التراث الضخم لولا أن الله قيض له من ينبشه، وينشره في قدرين: القدر الأول: حين تم العثور على هذا الكنز الدفين وذلك في القرن الرابع عشر الهجري. والقدر الثاني: هيأ لهذا التراث العظيم أحد أبرز جهابذة الفكر والأدب والسياسة ليبرز الكنز من قعر التاريخ، وينشره في الآفاق لمحبي شعراء السياسة والحكمة وأغراض أخرى من مديح وفخر وحماسة وهجاء خاض غمارها هذا الشاعر الفحل بدون كلل أو تعب. أما المؤلف فهو الأديب، أستاذ القانون، والسياسي المحنك، د. محمد بن عبداللطيف الملحم وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء السابق. وأما الشاعر البطل فهو «علي ابن المقرب العيوني»، الذي يُعد في طليعة شعراء العروبة في شبه الجزيرة العربية منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا هذا، والكتاب محل التقريض هو كما سماه مؤلفه (سقوط دولة وصعود شاعر) أراد الكاتب المبدع أن ينفض الغبار الذي ران على دولة عريقة في حقبة مهمة في تاريخ «الأحساء» أبادت عام 470ه حكم «القرامطة» الذي عُرف بالإجرام والفتك والفساد العريض، وحبر هذا الشاعر في ديوانه تاريخ دولة أبناء عمومته، وأخبارها، وأحوالها، وعما اكتنف حياتها من إيجابيات وسلبيات.. ولولاه لكانت تلك الدولة نسيا منسيا، وصدقت فيه مقولة (الشعر ديوان العرب)، وربما يكون عنوان الكتاب وهو «سقوط دولة وصعود شاعر» مثار جدل، وهو جدل تتسربل مضامينه ومداخله ومخارجه في ثنايا هذا السفر بأجزائه الثلاثة لمن يبحر في أعماقه ليجتني درره وجواهره.. لا شك لدي أن من يمم وجهه شطر هذا السفر أن يعود محملا بالمتعة والثراء المعرفي. غلاف الكتاب (اليوم)