أود في البداية التحدث عن كتاب قيم صدر الجزء الثاني منه في هذا العام إنه كتاب" منتقى الأخبار من القصص والأشعار" لجامع محتواه ومعده الأستاذ خالد بن ضرمان القحطاني ، وقد شجعه على هذا الإصدار ما لقي الجزء الأول منه من احتفاء كبير من قراء هذا الأدب الجميل، الذي يضع بين أيدينا نماذج شعرية من فنون الشعر الشعبي التي تعالج قضايا كثيرة في المجتمع البدوي لم تنل من اهتمام الكتاب والأدباء ما تستحق من اهتمام ، مع أنها تكشف عن مواد تاريخية واجتماعية لم تستهدفها أقلام الكتاب، وتبرز جمالاً أدبياً لم يكن في أدب الفصحى. لم يختلف منهج المؤلف في هذا الجزء عن سابقه،فقد خضع جمع محتوى الكتاب لانتقاء كاتب ذي بصيرة وحسن اختيار وتقديم، وقد ساعدته شاعريته وخبرته على ذلك فجاء الكتاب محققاً لتطلعات محبي هذا الأدب،دون تحيز أو ميل ، وإذ ركز على جوانب جادة تبعاً لأبطالها فإنه لم يتجاهل الجوانب الأخرى التي تذهب السأم وترفه عن النفس من القصص والنوادر الطريفة التي لا يخلو منها مجتمع . ويحمد للمؤلف أيضا ذكر المناسبات المتصلة بالنصوص الشعرية التي انتقاها، وكان صريحاً في الرواية بذكر المصادر والتنبيه أو الإشارة إلى ما احتفظت به ذاكرته وما لا يعرف له سنداً. كما انه قسم الكتاب إلى أربعة أبواب: الأول: قصص وقصائد قديمة، والثاني: حداء الخيل، والثالث: مختارات مقتطفة في الوصف والحكمة والقهوة، أما الرابع فكان عن الهجيني. وحداء الخيل هو الحداء الحربي بما فيه استحثاث الخيل واستنهاض الهمم، او الفخر بالنصر. أما الهجيني فقد اختار المؤلف أحد ألوانه وهو الخفيف من ألحان الهجيني مما يوافق لحن الكسرة وبنائها. وأجد أن الكتاب بجزئيه الأول والثاني من أهم الكتب التي تستحق الاقتناء لمحتواها ويسر تناولها، وتنوع موادها، مما يجعلنا نستحث همة المؤلف للتعجيل باصدار الجزء الثالث كما وعد. ولقد تناولت هذا الجزء بحضرة هاجس مشاركة القراء الاستمتاع معي بشيء من محتواه فرافقتني الحيرة في الاختبار لأهمية مواده وشعوري بأن القارئ لن يغنيه ما اختار عن الاطلاع على كل ما ورد في الكتاب. وأخيراً وجدت أن الطريف من الموضوعات مادة محببة إلى النفس حتى وان تكرر طرحها أو عرفها كثير من القراء، وبخاصة ما ينشر في الصحف من مواد يفرق بها القارئ الملل، ولا يرهقه التفكير فيها. لذا وقع الاختيار على حوار جرى بين زوجين شاعرين جمعت بينهما مصلحة ذاتية، وما يؤسس على مصالح ذاتية سريع الانهيار. فالشاعرة فتاة تطلع إلى الزواج منها كثير من الفتيان مما اضطر أبناء عمومتها أن يتسابقوا إلى حجرها ، والحجر يعني منعها من الزواج من غيرهم، وهي راغبة عنهم متطلعة إلى من يحقق طموحها من شباب القبيلة. والحجر عادة مألوفة في البادية تحميها الروابط العشائرية، ويحق لأبناء العمومه بخاصة أن يوقعوا الحجر دون معارض ، وهو حجر محبة واعتزاز وإن كان يحول بين الفتى والفتاة ممن تعلق قلبه بمن يهوى، وتعاطف أولياؤه الأدنون معه، فمن العيب تجاوز القريب إلى البعيد،والناس يتفادون اللوم الذي يترتب على عدم احترام هذه العادة، وقد يؤدي ذلك إلى قطيعة أولى الارحام. فالفتاة- كما يشير المؤلف:" لها ابناء عمومة حجروها وجميعهم أكفاء"، ولكنها راغبة عنهم كلهم ، وظلوا ينتظرون موافقتها على أحدهم وهي تأبى ذلك، وطال الانتظار مما دفع الفتاة ان تختار أكبرهم سنا زوجاً، أملاً أن يقدر اختيارها فيعف عن حجرها ويحررها من هذا القيد أو أن يطلقها بعد أن يتبين له عدم الوفاق بينهما. وتم الزواج، وكان أن نال مهنّى ما تمنّى فأنى له أن يفرط في كسب عظيم تمناه كل فتيان القبيلة وفاز به، وأنى لمن وجد النعيم أن يغادره إلى ساحة الشقاء. وبهذا فشلت الخطة، ومنيت الفتاة بخيبة الظن، فأخذت تفكر في خطة أخرى فهدتها بصيرتها إلى هجاء هذا الزوج الذي أبت طبيعته البدوية أن يغير من طباع الجلافة والتحلي بالرقة والعذوبة والقيافة في الملبس والبدن، بل ظل رجلاً كفؤا إلا أن كبر سنه لا يساعده على الاستجابة لما تتطلع إليه فتاة. أنشأت الفتاة قصيدة وجدت أنها تصيب مقتلاً من الرجل، ودبجتها بما يصرفه عنها، وانتهزت قدومه إلى البيت وتظاهرت بالانشغال عنه، واخذت تنشد القصيدة بلحن استعذبه وانتظر انتهاءها من الغناء الذي سره لحنا وكرهه مضمونا، وكانت رسالة واضحة استهلتها باسمه: يا حمد يا ريف حفيات الركايب ما معك في القلب لا ما ان صد حيلة تمتدحه بالجود والكرم، وتعتذر إليه أن ليس له مكان من قلبها ، ولاحيلة لها أوله لغرس المودة. ثم تدعو لرابطة الزوجية التي جمعتهما بالانقطاع: جِعْل عرسٍ حط في روحي طلايب ينقطعْ قطعة رشا بير طويلة إن هذا العرس الذي حملها مسؤولية الصبر عليه والانقياد له والانصياع لحقوقه ولروابطه لعل حبله بالانجذاذ، والرشاء حبل متين للدلاء التي تستخرج الماء من الآبار العميقة، ففي استعادة جزئه المغمور ووصله مشقة كبيرة لا يدركها غير من جرب متح الماء بها. أما الأسباب التي دعتها إلى الدعوة بقطع هذه الصلة فهي عدم اجتماع أسباب المودة المؤسسة على تجانس الاعمار والمشاعر: ما كبير السن لا مدِّح بثايب مثل نّوٍ مقبلٍ بَهَّشْ مخيله ماذا يفيدها مدح كبير السن الذي لايتناغم مع حاجات الرابطة الزوجية، فقد يطربها هذا المديح فتتعلق به تعلق البيداء بسحابة سرعان ما يتفرق ودقها دون أن تمطر. ثم تتحدث عن شخصيتها التي جذبت الرجال إليها معتدة بهذا التميز، في تساؤل تقريري: من خَبَرْ مثلي تولفه الغصايب فارهنوني عندكم دنيا طويلة مثلها لا يعسف ولا يرغم على أمر لا يريده، فلتبق رهينة بيتها حتى تعطى حق الاختيار، فذلك خير من الارغام. أما كبير السن فيمكن أن تزف إليه من تجاوزها الركب وأصبحت في سن لاتراهن عليه: يستوي للعود حايرة الجلايب يستوي له عرمسٍ قد هي جليلة وحائرة الجلايب ما تجلب الى السوق ولا تشترى.والعرمس هي المتقدمة في السن الخبيرة.أما هي فقد لقيت من سفرها نصباً ، ولن تقبل التطويع: حالفةْ ما اهين نفسي عند شايب كل ليلٍ وازيٍ كبدي مليلة وازي مذيق وكاو، والمليلة النار التي تضني وتقلق ولا تكوي، وقد تعني الحارقة، والأقرب هنا الازعاج والقلق والتعذيب. وأخيراً تعمد إلى وصف ما لا يعجبها فيه: كن غزل اذْنَيْه ريف في شعايب مثل ضبع لا مشى ينفض شليله هذا الوصف لا يصل إليه كتاب اليوم لبعدهم عن بيئة الشاعرة ، ولئن وجدت موافقته للموصوف ومناسبته للهجاء فقد لا يجد آخرون التوفيق الذي حذقته الشاعرة. إذاً ما هي النتيجة؟ لقد نجحت الخطة وطلقها الرجل، ومثلما نبذته شعراً طلقها شعراً فقال رداً على ابياتها: ابن مبخوتٍ بدا روس الهضايب يلعب طروق الهوى اللي تستوي له كيف هي تختارني بين القرايب وانكرتني يوم قد هي لي حليلة من بغاني قلت لله العجايب ومن جفل عني فانا ازود من جفيله يا رموق العين يا شقرا الذوايب اطرحي الاسباب في نادر قبيله عذربتني واحسبه عند الركايب واثرها في الشيب مقطوع الجديلة شايب شيبي على عوص النجايب سبر عيرات النضا ولها دليلة طرح مهذب، وتبرير مقبول، وهي لم تذمه لرداءة في خلقه او إقلال من كفاءته، وإنما بررت عزوفها عن عشرته لتنافر القلوب عما لا تود، وإن هجت خصالا فيه فذلك ما تكره المرأة في القرين، وكانت تسعى إلى غرس كراهيته لها ليحررها من رق صحبة غير متكافئة في العواطف والمشاعر، ومثلما وصفته بالكرم والفروسية وذلك ما يميز الرجال مدحها باطراء عينيها وأشقر ضفائرها وذلك ما تحب المرأة وصفها به، وقد هان لديه أن عابت شيبه الذي جاء نتيجة فروسية ونضال في ميدان الرجولة والذود عن ذمار القبيلة التي ينتميان إليها ، ومع ذلك فهو أيضا يذم الشيب. ويختتم أبياته بما تكره كل فتاة: يستوي لك واحد ماهو بشايب ينعسف لك زاينٍ طبعه حليله غاديٍ ثوبه من المرثا صلايب يمخض المشراب ويحاظي الفضيلة وبعد ما يهزأ بتطلعها- وهي غير ذلك ولكن كما تدين تدان- لقرين مطيع لها(بيتوتي) يصدر قراره المنتظر: طالق واعداد ما تذري الهبايب وعد رمل العرق وانواد تشيله وياحمد يا ابن مبخوت لست في حاجة إلى أكثر من ثلاث طلقات، ولاتلام فقد نعمت بالعسل الذي لم يجد فيك رقة رشف ولا لطف ملمس، ظللت تعانق المراقيب، وتصالي الجمر وتعاقر القهوة، وتسامر النجوم، وتأنس لطارق أضناه السفر، وسبر عيرات النضا. يارجل إن لنفسك عليك حقا. هذا الحوار لون من ألوان الأدب الشعبي ،ماذا يود المعارضون لهذا الأدب؟ ألا يعبروا أصحابه عن خلجات النفس بما يمتلكون من عبارات؟ هذا ما يجدون وهذا ما يجد فيه ذواقة الأدب الشعبي متعة العبارة الطريفة، وهذا ما ينقل لنا شيئاً من حياة المساحة الأوسع من بلادنا، بل الأصفى والأمتع في ساعات الصفاء.