في شهر الصوم، من المفترض أن تصوم جميع الجوارح عن فعل كل ما هو منبوذ ومكروه وحتى بعض المباحات عادة، وليس صوم الفرج والبطن لبضع ساعات من نهار، وجاء في الأثر «إن صمت فليصم سمعك ولسانك وبصرك». الصوم بهذا المعنى يأتي منسجمًا مع مقاصده الكبرى حيث تخضع الجوارح جميعها إلى تشخيص وتدقيق لكل عمل تقوم به حتى يتوافق مع أهداف الصيام. لا يمكن أن يصوم الإنسان عن الأكل والشرب والجنس مثلا، بينما تنفلت بقية جوارحه دون أي ضابط أو توازن. من هنا فإن الصمت يعتبر أحد مصاديق الصيام، كما جاء في القرآن الكريم على لسان العذراء مريم عليها السلام «إني نذرت للرحمن صوما، فلن أكلم اليوم إنسيا». هذا الرد القاطع جاء في وقت تزاحمت فيه الأقاويل والإفتراءات في قومها تتهمها في شرفها، فكان ردها السلبي بالصمت أفضل تعبير. عديد من الحكماء والعلماء يؤكدون على فضيلة الصمت في زمن الثرثرة وسفسطة الكلام، التي قد تؤدي إلى الشحناء والاعتداء، كما يقال «فإن الحرب أولها كلام». يقول (جوش بيليغر): «الصمت واحد من أقوى الحجج التي يصعب دحضها»، كما ينقل عن (توماس كارليل) قوله «ان الصمت أكثر فصاحة من الكلمات». في احد اللقاءات الثقافية كان الكل يتحدث ويرد ويناقش، إلا واحدا من الحضور كان أكثرهم صمتًا واستماعًا، لفت أنظار الجميع بصمته المبهر حقا، وعندما سئل عن سبب ذلك، رد بكل هدوء: أحب أن استمع، وأنا أطبق الحديث المروي «فليقل خيرا أو ليصمت». ما أجمل الصمت عندما يكون قرارا يتخذه الواحد ليكون سلاحًا قويًا ضد كل الأقاويل المتداولة، أو سببًا في المزيد من التوتر والانفعال. الصمت ليس دليل ضعف دوما، بل هو علامة قوة وثقة في أكثر الحالات، لأن الصمت - كما يقول أحد الأدباء - قمة الانفعال، وأن أكثر اللحظات إثارة للانفعال في حياتنا هي اللحظات التي يبلغ من انفعالنا لها الا نجد ما نقوله فيها. في شهر رمضان الكريم نحتاج لأن نصوم قليلًا عن كثرة الكلام، ونجرب الصمت فهو عين الحكمة والعقل والاتزان، وهو ما يحمينا من الانزلاق في أتون الفتن والأقاويل الانفعالية.