امتدادا لما تقدم عن التدجين وغسل الأدمغة وبرمجة العقول، أقول: لقد اتسع الخرق على الرائق بعد أن يسرت وسائل الاتصال الحديثة تلك المهمات. وامتدادا لذلك أيضا يمكن العودة إلى الماضي لالتقاط بعض الشواهد المماثلة. ففي القرن الخامس الهجري كان الحسن الصباح صاحب قلعة (آلمُوت)، وهو حصن في وسط جبال الديلم (أو البرز)، يفرغ عقول بعض البيادق البشرية من محتواها ويعيد برمجتها من جديد، فتتحول إلى أدواتٍ طيعة لمخططاته، وخناجر مسمومةٍ لاغتيال خصومه ومناوئي مشروعه الكبير. وفي التاريخ المعاصر نماذج لمشاريع مشابهة في صناعة العنف والكراهية تنتشر انتشار الوباء مهددة الحضارة الإنسانية، فيتزاحم التائهون للحاق بركبها كي يعاد تأهليهم ليتحولوا إلى تروس في تلك الآلة الرهيبة. خذ على سبيل المثال لا الحصر، عضو عصابات (الكو كلكس كلان) الأمريكية تجد أن عقله قد بُرمج ليؤمن بتفوق البيض عرقيا وثقافيا على سواهم من الأعراق الأخرى، حيث يؤدي به وهم الأفضلية إلى غطرسة عرقية تقوده بدورها إلى العنف ضد الأعراق والثقافات الأخرى تحت عنوان ذلك الاصطفاء المزعوم. عن هذا الشكل من الاستلاب، تقول الناشطة النسوية جيرمان جرير: «للبشر حق لا يقبل المساومة في تشكيل قناعاتهم، وعندما يصادر ذلك الحق فهذا هو ما يسمى «غسل الدماغ». ولأن استقلالية الرأي ضد الانقياد والتبعية والذوبان في المجموع، يعمد المبرمجون إلى قمع أي اجتهاد فردي، وأي جدال يهز القناعات، أو سؤال يثير الشكوك. كما يحرص مهندسو تلك الآلة على تأجيج المشاعر، وإيقاظ الحميات، وبعث الضغائن، وإرضاء الميول، وإشباع الرغبات بالوعود الوهمية الزاهية، وعندما تكتمل برمجة العقول يتم إطلاقها لتنجز مهامها الفتاكة متنقلة من قارة إلى أخرى». لا يختلف منطق غاسل الأدمغة في عالم اليوم عن منطق صاحب القلعة حين يقول: «إن السواد الأعظم من الناس لا يعبأ بالحقيقة، ولقد طرقت أبواب البلاهة والسذاجة البشرية فانفتحت الأبواب على مصاريعها»! ولعل ملاحظة إميل سيوران، في سياق حديثه عن اليوتوبيا، تؤكد ما ذهب إليه رئيس الحشاشين. فمن طبيعة البشر أنهم يفضلون التضحية من أجل الوهم على التضحية من أجل الحقيقة. وبتعبير آخر فقد يُستفز بعضهم لو شعر بأن وهما يعيش في ظله قد مُس، ولا تستفزه مسائل أخرى تمس حريته وسبل عيشه المختلفة. في مثل هذه الأوساط التي لا تعبأ بالحقيقة قدر اهتمامها بالوهم ينشط مبرمجو الأدمغة وباعة السراب.