حين تأتي الكتابة، ينبغي أن تأتي كالماء من الحنفية»! تبدو عبارة هنري ميلر هذه غريبة إذا ما فصلت عن سياقها، لكنها لا تعني ذلك «الإسهال الكتابي» المجاني الذي يأتي بسهولة ويرحل من الذاكرة بسهولة مماثلة. نعم، ليس المقصود بهذه العبارة ما تضخه «صنابير» كتابة المناسبات، والكتابة المتملقة، والكتابة/ البروباغندا، والكتابة التي تدعي الحكمة وتخاطب المتلقي على طريقة «اسمعوا وعوا». لذلك يضيف ميلر قائلا: «كلما احتفظت بالمادة داخلي، خرجت كالجوهرة نتيجة للضغط». والمقصود هنا هو الكتابة الإبداعية. الكتابة/ اللؤلؤة التي تستل زينتها «من عذاب المحار»، والتي تكمن في الذاكرة طويلا إلى أن يحين موعد انهمارها فتتدفق كالماء من الحنفية، حسب تعبيره. «اسمعوا وعُوا» أسلوب سهل لكنه ليس ممتنعا. مثل ذلك العنفوان الإنشائي كفيل باستهلاك «شدَّات» أو رزم من الورق دون أن يضيف فكرة جديدة، ودون أن يمنح المتلقي فرصة للمشاركة. وهو، فوق ذلك كله، أسلوب من يدعي الإقامة في رحاب الحقيقة المطلقة. حين أقرأ لكاتب يثير فضولي المعرفي، ويثري حياتي بالمعنى فإنني لا أختلف عن «سانشو» رفيق درب دون كيخوته وحامل درعه. وهي لقطة من رواية سرفانتيس أشار إليها البرت مانغويل في كتابه «مدينة الكلمات»: يعود سانشو إلى بيته فتسأله زوجته: «ما الذي استفدته من حمل الدرع؟ ما الثياب التي جلبتها لي؟ أحذية لأطفالك؟» فيرد سانشو: «لا أملك أيَّا من هذا لكني أحضرت أمورا أخرى أكثر خطورة وأهمية»! ويبدو أن الأمور الأكثر أهمية عنده هي تلك القيم والمعاني والأفكار والمواقف التي تعلمها من رفيق رحلته دون كيخوته، أو من تلك المغامرة بشكل عام. يستطيع المتلقي أن يقول الشيء نفسه عن رحلته مع كاتب يأخذه إلى فضاءات مختلفة بعيدة عن أسلوب «اسمعوا وعوا» الذي لم يعد مقبولا حتى لو كان بقلم أحد «حكماء» مواقع التواصل الاجتماعي. إن الإبحار مع بعض الكتاب شبيه برحلة عوليس إلى إيثاكا التي جعل منها الشاعر اليوناني كفافيس مغامرة مثيرة زاخرة بالتجارب، ثرية بالمعاني، ومفعمة بالدهشة. حيث المتعة تكمن في الدرب إلى إيثاكا وليس في الوصول إليها. أخيرا وفي رسالة عنوانها «إلى من يكتب الخواء» تتساءل غادة السمان قائلة: «لماذا لا تكتب أقل لتقول أكثر؟ ولماذا تثرثر كي لا تقول شيئا حقيقيا؟» سؤال توجهه الكاتبة إلى صنابير الكتابة السهلة غير الممتنعة.. إلى أساتذة مدرسة «اسمعوا وعوا».