من المعلوم أن الشركة بعد إتمام تأسيسها تكتسب الشخصية المعنوية، وترتيباً على ذلك يصبح لها ذمة مالية مستقلة عن ذمم الشركاء فيها. وهذه الذمة المالية تتكون من الحصص التي قدمها الشركاء سواءً النقدية أو العينية بالإضافة إلى الأموال الاحتياطية التي تكونها الشركة أثناء نشاطها والأرباح التي تحققها من وراء العمليات التي تقوم بها في إطار الغرض الذى انشئت من أجله، ويضاف لها كذلك الموجودات المعنوية مثل براءات الاختراع ونحوها. وعلى هذا فإن كافة مكونات الذمة المالية للشركة كشخصية معنوية ينبغي أن تتوجه لها الحماية القانونية الواجبة مثلما تتوجه تلك الحماية للشخصية الطبيعية الممثلة في الإنسان، وبالتالي فإن الاعتداء على أي عنصر من عناصر الذمة المالية للشركة يدخل في نطاق الأفعال غير المشروعة التي تنال من هذه الأموال المقصودة بالحماية. والسؤال الذي أودّ استدعاءه هنا بعد هذه المقدمة، هل جرى النص على تجريم إساءة استعمال أموال وائتمان الشركة بنصوص خاصة وصريحة في نظام الشركات السعودي؟ والجواب على ذلك هو أن نظام الشركات السعودي القديم (انتهى العمل به في عام 1437ه) لم يكن ينص صراحةً على تجريم إساءة استعمال أموال وائتمان الشركة، وإنما تُركت تلك الأفعال التي تُعدّ سوء استعمال لأموال الشركة للتصنيف تحت مسمى جرائم أخرى مثل خيانة الأمانة أو الاختلاس أو غيرهما من الجرائم. وقد كان هذا موضع انتقاد سبق أن أرسلته لوزارة التجارة مستدلاً بأن قانون الشركات الفرنسي الصادر عام 1965م - والذي كان متزامناً مع صدور نظام الشركات السعودي القديم- قد نص صراحةً على تجريم إساءة استعمال أموال وائتمان الشركة وذلك في المادة (437/3) منه وكان نصه: «كل رئيس أو مدير في شركة استعمل بسوء نية أموال وائتمان الشركة في أغراض مخالفة لمصالح الشركة لتحقيق أغراض شخصية أو لتفضيل شركة أخرى له فيها مصالح شخصية بطريق مباشر أو غير مباشر يعاقب بالحبس الذى لا يقل عن سنة، ولا يزيد على خمس سنوات وبالغرامة التي لا تقل عن ألف فرنك ولا تزيد على 40 ألف فرنك أو بإحدى هاتين العقوبتين». وهذا النص التجريمي له أهميته الواسعة -وقايةً وحمايةً- نظراً لدخول صور لا تُحصى من الأفعال تحته والتي تمس بالسوء أموال وائتمان الشركة وذلك مثل تأجير بعض عقارات الشركة بثمن أقل لأجل علاقة شخصية، أو استعمال بعض أموال الشركة أو أصولها كرهنٍ لضمانِ دينٍ شخصي لمديري الشركة أو أعضاء مجلس إدارتها، أو التأخر في بيع مخزون حتى تنتهي صلاحيته لأجل مصالح شخصية كالاقتصار على مسوّق واحد دون غيره. وقد كان توجه المشرع الفرنسي لهذا التجريم مبنيّاً على عدم انطباق القواعد العامة لتجريم خيانة الأمانة على العديد من الأفعال المسيئة لأموال الشركة سواءً أكانت في أعمال الإدارة كالتوقيع على شيكات أو كمبيالات تكلّف الشركة مبالغ كبيرة دون توافر نية الاستيلاء عليها وإنما مجاملة لشركة أخرى وكسلطة المدير في صرف مكافآت لمن يرتبط بهم بروابط القرابة أو الصداقة، أو أعمال الامتناع أو أعمال التصرف والتي لا يصدق عليها وصف خيانة الأمانة كجريمة مكتملة الأركان. ولذلك برزت أهمية وجود هذا النص - الذي يتعلق بأهم ما في الشركات وهو مالُها وائتمانها- في أنه يمنع إفلات المديرين وأعضاء مجالس الإدارة الذين قد لا تنطبق على أفعالهم -المندرجة تحت سوء الاستعمال- القواعدُ العامة التي تتطلبها النصوص الجنائية المتعلقة بالاختلاس أو خيانة الأمانة لإيقاع العقوبة عليهم نظراً لصعوبة إثباتها فيهم.وأنا شخصياً من خلال عملي كمحام قد عايشت مثل تلك التصرفات وسأضرب في ذلك مثالاً واحداً وهو أنني منذ عدة سنوات حصلت على حكم قضائي لموكلتي وهي إحدى الشركات المساهمة المُدرجة في سوق المال ضد شركة أخرى ذات مساهمة مغلقة ثم تفاجأت بأمر المدير العام للقسم المالي بناءً على توصية رئيس مجلس الإدارة بإدراج هذا الدين ضمن الديون المعدومة وعدم الاستمرار بتنفيذ الحكم القضائي وكان بعدها أن علمت بأن سبب ذلك هو تفاهمٌ خاص جرى بين رئيسي مجلسي الإدارة لكلا الشركتين، وعليه تم التصرف في أموال المساهمين دون وجه حق. لكن - وبحمد الله- صدر نظام الشركات الجديد في عام 1437ه والذي كان متضمناً العقاب على المساس بأموال الشركة وائتمانها حيث نص في المادة (212/ب) منه على ما يلي: مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها نظام آخر، يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على خمس سنوات وبغرامة لا تزيد على خمسة ملايين ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين... كل مدير أو مسؤول أو عضو مجلس إدارة يستعمل أموال الشركة استعمالاً يعلم أنه ضد مصالح الشركة لتحقيق أغراض شخصية أو لمحاباة شركة أو شخص أو الانتفاع من مشروع أو صفقة له فيها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة. وحقيقةً،، فإن هذا النص التجريمي الصريح والمباشر الذي قرره المنظم السعودي له أهميته البالغة حيث تتكامل به منظومة الحماية الواجبة لأموال وائتمان هذه الشركات من الأفعال التي قد يرتكبها المديرون أو أعضاء مجلس الادارة لمصالحهم الشخصية أو لمصالح غيرهم دون مصلحة الشركة. وأختم بضرب بعض الأمثلة الواقعية والحقيقية لتلك الأفعال ليكون القارئ الكريم على دراية بمخرجات هذا النص التجريمي الذي نتمنى تفعيل تطبيقه على أرض الواقع دون أن يكون حبراً على ورق. وذلك مثل تلك الانتدابات المطولة والفارهة لبعض أعضاء مجلس الادارة وكبار التنفيذيين لأجل تحقيق بعض أعمال الشركة وهي لا تستحق عُشرَ تلك التكاليف المسجّلة مالياً، أو مثل استفادتهم من الشركات التي لها مصالح عند شركتهم فتقدم لهم مزايا وعطايا، كبنك معيّن يُعطي أشخاصهم الفردية تسهيلات بنكية دون فوائد ليجعلوا أموال الشركة في حساب هذا البنك وهذه تُعتبر فوائد شخصية لهم وليس للشركة، ويقاس على ذلك الكثير مما يطول سرده هنا كالسيارات الفارهة وتكاليف صيانتها، والاجتماعات الدورية لأعضاء مجلس الإدارة التي تبلغ فيها قيمة وجبة الغداء لهم عشرات الآلاف من الريالات فضلاً عن الجناح الفندقي بكل مصاريفه للمسافرين منهم والذي قد يمتد حجزه لعدة أيام وبرفقة العائلة ونحوها، وتكاليف سفريات باهظة لأغراض دورات أو زيارات عمل لا حاجة ماسة لها فتُستغل للسياحة والترفيه وتُوضع تحت بند مصروفات إدارية، وكذلك تقديم موردين أقل كفاءة على غيرهم لمصالح شخصية وغيرها من الأفعال والسلوكيات الخاطئة التي تستلزم الحيطة والحذر والجدية والحزم في عقاب الفاعلين وردع المتربصين.