يكتسب الجسد بعدًا ثقافيًا هامًا في أدب الحداثة وما بعدها، فهو «الذهن الكبير» كما عبر عنه نيتشه، وليس مجرد (مركبة الكائن في هذا العالم) كما يصفه موريس ميرلوبونتي. لذا يمكن النظر إليه باعتباره نقطة التقاء الروح بالمادة وليس مجرد آلة وظيفية صماء. الشاعر الروسي يفجيني يفتوشنكو، الذي فقدناه مؤخرًا، يرتقي بمفهوم الجسد إلى أن يجعل له ذاكرة مستقلة مبهجة ومريحة عند الاستدعاء: ((في حياة كل انسان ساعات من الكآبة اللزجة تتعرى فيها الحياة وتنزل البرودة القاتلة ! لكي نصمد نستنجد يائسين بالذاكرة كما نستنجد بالممرضة الحنون! لكن ربما حل في نفوسنا الليل وحل الخراب! فتعجز الحكمة عن العون وتعجز ذاكرة القلب وتفقد عيوننا لمعانها الحي وتتجمد الحركات والكلمات إنما تبقى لنا ذاكرة ثالثة هي ذاكرة الجسد!)). فالشاعر هنا يفصل بين ذاكرتين: الجسد بمتعه الحسية والتي يستنجد بها حتى تخرجه من إحباطاته وألمه، وذاكرة القلب بآلامه والتي يقصيها مؤقتًا حتى لا تعيق تسلسل اجترار الملذات التي اختبرها من قبل بجسده وحواسه. الروح في الذاكرتين محايدة، تراقب عن كثب.. وما يهمها في لحظتها تلك سوى من يخرجها من شقائها ويفصلها عن واقعها الكئيب. فهل القلب عندما يغوص في ذاكرته لا يجد سوى الحزن والألم؟ ليس تمامًا، فقط لأن ذاكرته فيما يخص الفرح قصيرة، ولأن خفقانه حينها يكون على شكل دفقات متسارعة تضخ الدم إلى الجسد حتى يتراقص على وقع الحدث المبهج، وعند الحزن فهو يخفض الدفق بأقل من مستواه الطبيعي، ليخدر الأعضاء ويجعلها أقل حساسية رحمة بها وشفقة. ذلك الإحساس هو الأطول بالنسبة للقلب والأكثر إجهادا. تبقى الذاكرة الأخرى والتي لم يضئها النص وهي الذاكرة الثقافية وقد أشار لها الشاعر بالحكمة، وتجاوز عنها سريعًا لأنه لا يمكن الركون إليها في مسألة المشاعر.