ربما تحدثت الأدبيات كثيرا عن عقدتي أوديب وإلكترا، وهي مفاهيم أنشأها عالم النفس سيجموند فرويد مستوحيًا اياها من أساطير إغريقية قديمة جدا، حيثُ تتحدث العقدتان عن التعلق النفسي اللاواعي للطفل في سن التنشئة بوالده ووالدته بطريقة مفرطة تجعل هذا التعلق مرضا شرسا يصعب الفكاك منه، وفي الحقيقة أسقط الكثير من الكُتّاب هذه العقد على بعض النماذج الإنسانية والاجتماعية المصابة بعقد مماثلة، من بينها ما أنوي الكتابة عنه وهو الداء الذي أصاب التدوين العربي الذي ولد في مايو 2003، حيث بدأ التدوين بمدونة سردال، وهي أول مدونة في العالم العربي، ومنذ ذلك الحين وإلى هذا اليوم أجد أن التدوين العربي لم يخرج من طوره الإنشائي الأول والتصق به دون تطوير مشهور أو خروج من تلك الأزمة التي تشبه أزمة التعلق في عقدتي أوديب وإلكترا كثيرا! الكثير منا مأخوذ بحركة التدوين النشطة في العالم بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص، فتلاحظ النشاط الشبابي اللامحدود في كتابة الأفكار وطرحها والمتابعة المتزايدة التي يحققها المدونون التي تستثير حافظة الكثير من المتتبعين لوسائل الاعلام الجديدة، وفي الحقيقة حركة التدوين العربية، ورغم طورها الذي لم يفارق البدايات بعد، قامت على نشر ثقافة الرأي والرأي الآخر وإثراء المحتوى العربي على الإنترنت في تخصصات مختلفة، وقد بدأت في ظل تواجد كثيف للمستخدم العربي على الإنترنت، ونشأت الكثير من المبادرات العربية لعقد لقاءات جامعة لمدونين عرب من قطاعات ومجالات مختلفة للحديث عن أهمية التدوين والمساهمة في تطوير وإثراء المحتوى العربي، والآن، أُطلقت نداءات كثيرة تطالب مستخدمي الإنترنت بضرورة استثمار مجال المدونات الإلكترونية بوعي عالٍ وتحرك مدروس من أجل مناصرة القضايا المجتمعية، وتوسيع أفق التعبير، وترسيخ قاعدة الصحافة الشعبية وتشجيعها في أوساط المجتمع. ولأن أغلب المدونات في العالم العربي أخذت كسوتها السياسية الصرفة، تجد أنّهُ لا غضاضة أنَّها كانت بدورها تُشعل فتيل الاضرابات الجماعية والثورات المتواترة في تونس ومصر ومن ثَمَّ ليبيا واليمن، حيثّ كانت المدونات في تلك الأحداث توجه الحِراك السياسي وتَظهَر كقوة سياسية متعاظمة تدير وتُحرك الجماهير في كل مكان والتي ثارت من أجل نفض الفساد وتدهور الأحوال المعيشية والاقتصادية إضافةً إلى مرارة سيناريوهات التضييق التي كابدتها تلك الشعوب التي وجدت من فضاء العالم الافتراضي متنفسًا ديموقراطيًا حقيقيًا حولتهُ إلى غرفة عمليات كبيرة. ولا بد من التأكيد أنَّ التدوين مختلف التوجهات هو ما قد يساهم فعليًا في تكوين معرفة عربية نحتاجها الآن حقيقًة، ويلاحظ أنَّ هناك توجهات ومجالات بعينها أصبحت أكثر رواجًا من غيرها بين المدونين العرب وهي التدوين حول السياسة والتقنية والتنمية البشرية وريادة الأعمال، ولكن لا بد أن نوضح أولا أن عملية التدوين عملية حرة لا تخضع لرقابة أو قيود، لذلك لا يمكن التحكم بها ولا توجيهها حتى مع وجود مؤسسات تهتم وتنادي بتنظيم حركة التدوين العربي وتطويرها، بل قد يؤدي ذلك إلى تقييد المدون، الأمر هنا أشبه بنظرية تشارلز داروين للنشوء والتطور، فإنَّ عملية تطور حركة التدوين العربي عملية ذاتية وفقا للمجهود المبذول من قبل المدونين وتوجهاتهم وتأتي ضمن معايير وسياسات يقومون بتحديدها، مع ضرورة التأكيد على وجود المعايير الأخلاقية في التدوين والتي لا يختلف عليها أحد. وللخروج من تلك المرحلة الأولى التي حقق فيها التدوين العربي تأثيره المطلوب لمرحلة أكثر قوة وأكثر ضغطًا يجب التفكير بحل هذه العقدة والخروج من رداء التمسك بالتقليد والتكرار والاجترار، واليوم يقع على المدونين العرب (مؤرخي العصر) الكثير من الاعتبارات، خاصة تلك التي تشير إلى ضرورة اسهامهم في تأسيس عمل تدويني جديد وملتزم بقضايا مجتمعهم، وكفيل بتخليق هذا الفضاء الحيوي، وقادر على استثمار الإمكانات الفعلية، سواءً في تأطير وتنشئة وتنوير المجتمع، أو مطالبة المسؤولين باتجاه بلورة قرارات أكثر مصداقية وقربًا من المجتمع، والسعي لطرح القضايا الوطنية في شتى المجالات على الشبكة العنكبوتية بجرأة وموضوعية، وذلك وصولاً لتشكيل رأي عام عالمي مناصر لهذه القضايا والتحرك الجاد لحلّها وتحقيق السلام والتنمية.