شكلت المقابلة الشهيرة التي أجراها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الصحيفتين الأوروبيتين التايمز اللندنية وبيلد الألمانية نقطة فاصلة بين ما قاله الرئيس أثناء حملته الانتخابية وما قيل عنه وما يمكن أن يفعله بعد أن أصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة. قبل خمسة أيام من تنصيبه، وصل العديد من المراقبين والمختصين في الشئون الأمريكية، ومن خلال ما جاء على لسان الرئيس، وتحديدا حول سياسته الخارجية، إلى استنتاجات عامة مفادها تراجع الرأي القائل بأن الرئيس دونالد ترامب لن يكون ترامب المرشح في الانتخابات؛ نتيجة لطبيعة النظام المؤسساتي المعقد والمتعدد الصلاحيات. وبالرغم من وجود بعض الشواهد التي تؤيد هذا الرأي، إن في قوة المؤسسات أو في التعارض الواضح بين طموحات الرئيس والواقع الملموس في العلاقات على مستوى العالم، إلا أن الأوروبيين، وهم الأكثر تأثرا بما يمكن أن يحدث وصلوا قبل غيرهم إلى استنتاج واضح مفاده أنهم إزاء انعطافة سياسية واقتصادية تاريخية على مستوى علاقة أوروبا بالولاياتالمتحدة. ذلك، لأن ترامب الرئيس سيحقق جزءا كبيرا من سياسته الواضحة تجاه أوروبا. ما هي مآخذ الأوروبيين على ما جاء على لسان ترامب في المقابلة الصحفية في جانبها الموجه للأوروبيين؟ إضافة لردود الفعل المتعالية - لأول مرة - على لسان كل من الرئيس الفرنسي هولاند والمستشارة الألمانية أنجلا ميركل ومفادها «أننا قادرون على إدارة شئوننا والدفاع عن أنفسنا كأوروبيين»، سارع بعض المفكرين السياسيين الأوروبيين إلى القول إنها ربما تكون فرصة مواتية تقدمها الولاياتالمتحدة لأوروبا للاعتماد على نفسها ليس فقط سياسيا واقتصاديا بل وعسكريا. فإذا كان حلف شمال الأطلسي قد أصبح من الماضي، كما قال ترامب وكما يعمل بوتين لتفكيكه، فقد حان الوقت لبناء قوة عسكرية أوروبية ليست موجهة ضد امريكا بل بالتنسيق معها. ولتلمس أرضية المآخذ الأوروبية على ما يمكن أن تلحقه السياسة الأمريكية من أضرار تحت إدارة ترامب، تلخص افتتاحية جريدة اللوموند الفرنسية في 17 يناير أي بعد يومين من مقابلة الرئيس مع جريدتي التايمز وبيلد تحت عنوان (ترامب ضد أوروبا) حيث نقرأ: «لا بد لأوروبا أن تتخذ موقفا إزاء المنعطف التاريخي المتمثل بوصول المليونير دونالد ترامب إلى الرئاسة. للمرة الأولى منذ عام 1950 يعلن رئيس أمريكي عن عدم اهتمامه، للاتحاد الأوروبي. ترامب يقول وبصوت عال وقوي إنه لا يحب الاتحاد الأوروبي ويراهن على تفككه. إنه انقلاب متكامل. ليس لدى الرجل الذي جلس في 20 يناير في البيت الأبيض سوى نسيان ما أنجزه الأوروبيون على طريق الوحدة والتعاون، هذا هو محتوى المقابلة الصحفية الكبرى. صحيح أن الولاياتالمتحدة ساهمت في توحيد أوروبا غداة الحرب العالمية الثانية وأيدتها.. إنها نهاية مرحلة. ليس أمام أوروبا سوى خيارين: أن تتباكى على الانعطاف الأمريكي وتعتمد على الأكثرية الجمهورية في الكونجرس لتحييد سياسة ترامب، كما يمكنها التعويل على ما قد يطمئنها من خلال قوة الحقائق المضادة وتفاصيل أخرى في خطاب ترامب وبخاصة في العلاقات الخارجية وفي هذا الاتجاه تسير أوروبا نحو الفشل. أمريكا تستجيب لمكونها وتنكفئ على نفسها وتعتبر أنها ليست في حاجة لحلفائها الأوروبيين. من جهة أخرى، لا بد من الاعتراف بأن خيبة أمل الأوروبيين مبالغ فيها. الأوروبيون قبل غيرهم يعرفون أن ما حدث في أمريكا لم يكن نتيجة للمظاهر الفلكلورية للانتخابات وبخاصة خطاب ترامب الانتخابي ونجاحه بل هو تراكم لأزمات مست كل جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية وأفضت إلى تبرم شرائح واسعة في القواعد الشعبية وتحديدا في الطبقتين الوسطى والدنيا. هذه الشرائح عبرت عن نفسها في العشر السنوات الأخيرة وحجبت أصواتها عن الأحزاب التقليدية يمينا ويسارا ومثلت ظاهرة «التمردات الانتخابية» كما يسميها هوبرت فدرين المفكر ووزير الخارجية الفرنسية في عهد متران. العولمة ليست أفكارا أملاها هذا السياسي أو ذلك، وإنما هي تطور مجتمعي لواقع جرى تأطيره على يد المستفيدين من أباطرة السوق على حساب شرائح متزايدة من الناس. عندما انهار جدار برلين بشر الكثيرون بنهاية الأزمات العالمية وتدشين عالم متعدد أكثر عدلا من صراع القطبين فماذا كانت الحصيلة؟ حروب طاحنة وجرائم حرب وتدخلات دولية نفعية بعناوين «إنسانية». لقد مل الناس حتى في الغرب من كيد من يقومون بها من السياسيين، فقرروا التصويت للفوضى التي وجد الشعبيون ضالتهم بها تحت دعاوى العداء للسياسة والديمقراطية والشعوب خارج حدود أمريكا وأوروبا.