إن ما يحدث هو تفريغ للأطفال من فطرتهم وطبيعتهم وتلقائيتهم، إنه طمس متعمد وتشويه مقصود لأجمل مراحل العمر بل لأجمل مراحل الحياة بكاملها، ولا أقصد هنا العنف الجسدي أو اللفظي الذي يتعرض له بعض الأطفال في مجتمعنا، فهذا العنف بوصفه تعدياً سافراً ومؤثراً حد الألم إلا أن هناك عنفا من نوع آخر يمكنني أن أطلق عليه العنف الناعم الذي تتعرض له الفئة الأكبر من الأطفال، ولكي نكتشف هذا الجزء أو بالأحرى هذه الزواية بل مجموعة الزوايا فلا بد من تغيير مكان عدسة الرؤية لتظهر لنا المشكلة بكل جوانبها وحيثياتها وخطورتها الحالية والمستقبلية. في السابق كان الطفل يعيش مرحلة الطفولة بكل تفاصيلها يمر بأيامها وشهورها وسنواتها وهو ينمو نمواً جسمياً ونفسياً وعاطفياً بكل عناية واهتمام ينهل من حنان والديه وأسرته فيتلمس خطواته الأولى في أجواء من الحب الكامل والرعاية المثلى لا يبقى حق من حقوقه كطفل إلا وقد تم تحقيقه، الآباء والأمهات تحديداً كانوا يقومون بواجباتهم من منطلق المسؤولية ومن خلال بواعث الأبوة والأمومة التي يتوارثها الإنسان من بدء الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الآن بتنا نرى أطفالاً ابتعد عنهم آباؤهم وأمهاتهم بعد الولادة ومنذ اللحظات الأولى من تفتح أعينهم على الحياة ولم يبق هناك من علاقة لهم بأطفالهم سوى علاقة الدم والمادة والاسم في شهادة الميلاد، فالأم تسلم المهمة بكاملها للمربية أو العاملة المنزلية ثم تتفرغ لمتابعة آثار الحمل والولادة بعلاج الترهلات واستعادة القوام الممشوق وتترك طفلها بلا رضاعة طبيعية ودون احتضان أو حنان، أليس هذا نوعا من العنف تجاه الأطفال؟! زاوية أخرى وهي حرص الوالدين الشديد على إدخال أطفالهما الحضانة ثم الروضة والتمهيدي قبل أن يبذلا كل ما في وسعهما لإدخاله مستجداً في الصف الأول الابتدائي، هذه الحالة من الاستنفار العالي هي في حقيقتها تدمير متعمد للطفولة وكأنما صار هذا الطفل المسكين عبئاً ثقيلاً يحاول الآباء والأمهات التخلص من مسؤولية تربيته ورميها على هذه المؤسسات التعليمية والتربوية، ولنا أن نتخيل طفلاً أو طفلة في الثلاث السنوات الأولى تحت ظل مربية والثلاث السنوات الأخرى تحت أسقف الحضانة والروضات والمدارس، هي ست سنوات عجاف تمر على أطفالنا لا يعيشون فيها جمال الطفولة وبراءتها، ألا يصنف ذلك نوعاً من العنف تجاه الأطفال؟! صورة أخرى للأطفال في الصفوف المبكرة وهي أن كثيراً من الأمهات - ولا أرى مبرراً منطقياً لذلك- يصطحبن بناتهن الصغيرات إلى المشاغل النسائية قبل كل مناسبة عائلية أو اجتماعية أو مدرسية أو أي مناسبة احتفالية ويجعلنهن تحت تصرف عاملات المشاغل اللاتي ومن منطلق مادي بحت يغمرن هؤلاء البنات شعورهن ووجوههن بل وجسمهن كاملاً بالمستحضرات الكيماوية وبالمساحيق التجميلية التي لا يتحملها شعر الطفلة ولا جسمها الغض فتخرج الطفلة كالمسخ وكل ذلك مقبول وموافق عليه في نظر أم مفرطة وغير واعية كي تتميز طفلتها وتكون نجمة الحفل ودون انتباه لما تخلفه هذه المواد والمستحضرات من تأثير مرضي على طفلة في نعومة أظفارها، أليس هذا نوعا من العنف تجاه الأطفال؟! وفي وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي غابة من التجاوزات الكثيفة والغريبة تجاه الأطفال منها ما هو سخرية واستهزاء بالطفل ومنها وهو الأخطر وهو عرض الأطفال من الجنسين ممن وهبهم الله الوسامة والجمال فتتنافس الأمهات على تصوير الأطفال وعلى مدار الساعة يظهرنهم وهم في أجمل صورة وهناك من تظهر موهبة طفلها أو طفلتها وتسلط الأضواء عليهم وتبث تلك المقاطع في جميع حساباتها بلا استثناء وكأنها تتفاخر بما تعمل أو تتنافس مع غيرها، وكم خلفت هذا التصرفات العبثية من أمراض فتاكة لأطفال كانوا زهرة الحياة الدنيا فأصبحوا أثراً بعد عين، ألا تتفقون معي أن هذا العبث وهذا (التسليع) للطفولة الذي لا يزال مستمراً حتى اللحظة هو نوع من العنف تجاه فلذات أكبادنا؟! للأسف، صرنا بهذه التصرفات المسكونة باللا وعي نختزل بل ونسرق طفولة أطفالنا وندمر ونهمش أزهى مراحل عمرهم، وكم هو مؤلم أن ترى -والحالة هذه- أطفالنا في تصرفاتهم وحديثهم وتعاملهم قد تجاوزوا عمرهم الزمني فهم أطفال في أعمارهم وصغرهم ولكنهم يتصرفون ويتعاملون ويتحدثون وكأنهم في مرحلة المراهقة المتأخرة، وما ذلك إلا انعكاس لتفريطنا في تربيتهم وطمسنا لملامح حياتهم الأولى الزاهية. ويبقى الهاتف الذكي الذي لا تخلو يد طفل أو طفلة منه يرى فيه ومن خلاله ما لا يمكن توقعه مشكلة أخرى فهذا الدلال الزائد هو نوع من العنف ولكنه عنف ناعم ومغلف لا يكاد يرى أو يبين. والأكيد أنه إذا استمر الحال على هذه الوتيرة المتصاعدة؛ فلن يتجاوز الفرد في مجتمعنا الثلاثين أو على أكثر تقدير الأربعين إلا وقد بدت عليه - حقيقة لا مجازاً- علامات الشيخوخة والهرم.