أعرف أن مثل هذه الأسئلة قد تبدو استفزازًا للقارئ، قد تجعله يرفع كل أدوات النفي دفعة واحدة في قبالة هذا السؤال الذي لا يرى إلا نفسه، فهو المحور الذي يدور حوله الجميع وإن فرغوا هم من الدوار حوله دار هو حول نفسه، لأنه ربما كان «سيد الرفض الذي سيقول لك هل ستسمعني؟» إن استعرنا بتصرف بيت الشاعر الكبير محمد العلي، وإن لم تستمع له وأدرت له ظهرك قال فيك ما لم يقله مالك في الخمر، لأن مثل هذه الأسئلة لا تدع لك مجالا تقف منها بالضد، فسؤال يقول لك كيف أجعل منك ذكيًا؟ هل ستقول له لا أريد هذا الذكاء، لأنني في غنى عنه، لو قلت ذلك ربما لاحق العار والشنار ذريتك إلى سابع جد، لأن جدهم قبل قرن من الزمن رفض أن يكون ذكيًا، وهلم جرا من الشتائم التي ستنهال عليك حتى بعد موتك، كل هذا يحصل لك لا لشيء إلا لأنك رفضت مثل هذا الأسئلة، وأصررت على أن مثل هذا السؤال في المكان الغلط لشخص الذي لا يراه برغم حجم ما أحدثه من استفزاز في نفسه ونفس ذريته، وهنا يبرز لك سؤال من هو الوصي عليك حينما تحاصرك مثل هذه الأسئلة المغلقة، التي تقول لك بالفم المليان هي أو الطوفان، بل ألا تراها أنها باتت سمة حتى للكثيرين من أدعياء الليبرالية وحرية الفكر يتساوون فيها مع أصحاب الأيدلوجيات المتكلسة فلم يعد نعتا يصيب «كان» دون أخواتها لهذا حذاري أن تكتفي بقول أنا أكره كل الصيغ التي تشابهها وإن اختلف مضمونها، وتقف عند قولك هذا، دون أن تكون لغة خطابك تعمل بالضد منها، لأننا في المجتمعات العربية مللنا من النخب الذين رفعوا الولاء لحرية الفكر وتعدد الأسئلة، ولكنهم يعملون خلافا لما يقولون، أو إن أحسنا الظن بهم تجدهم يضيقون ما فيه سعة، ولأن الشيء بالشيء يذكر كما يقال، هناك كتاب للفيلسوف الألماني المتشائم جدا آرثر شوبنهاور بعنوان «فن أن تكون دائما على صواب»، أي بمعنى آخر كيف تكون دائما على صواب؟ ولكنه وضع بدلًا عن «كيف» الاستفهامية كلمة «فن» ليؤثر على مشاعر قارئه، وألحقها بعد ذلك بكلمة «دائما» ليقفل أمامك كل الطرق التي تؤدي إلى أجوبة أخرى، وإن قلت كيف يكون لفيلسوف كل هذه النوايا المناقضة لعمله كباحث عن الحقيقة؟. قد يجيبك آرثر شوبنهاور ذلك الرجل السوداوي بكل ثقة: من قال لك إن في كل مرة على الفيلسوف أن يبين لك أنه لم يصل إلى الحقيقة، إن كتابي هذا الذي استفزك من رأسك حتى أخمص قدميك، إلى درجة أن وضعك في حيص بيص من أمرك، ما هو إلا نتيجة طبيعية لوصولي إلى الحقيقة التي عجز غيري عن القبض عليها، وقبضت عليها أنا في نهاية المطاف، فهل تريد مني أن أدعها بعد كل هذا العناء من مواصلة ليلي بنهاري في سبيل أن أحظى بها، ألهذا درسنا الفلسفة، لتأتي لنا في نهاية كل هذا التعب وتتنطع لنا بهذه الأسئلة التي لا قيمة لها، أنا يا سيدي لا أضيع وقتي بهذه الأسئلة الساذجة، التي مازالت لم تر الحقيقة كما رأيتها أنا واضحة كشمس. في ظني أن هذا هو أصعب حوار قيل على لسان شوبنهاور، فأنت لا تعلم كيف تستطيع أن تزحزح شخصًا قبض على «الحقيقة» كما يزعم على أقل تقدير، إلى رأي تراه بالضد من هذه الحقيقة. قل لي الآن بكل صراحة لو كنت مكان شوبنهاور ماذا تقول؟!.