جرت العادة، أن ينسحب السجال حول التنمية الاقتصادية نحو أهمية تطوير العنصر البشري، فنظريات التنمية الاقتصادية، منذ مطلع الثمانينيات الميلادية، تنشط على إيلاء أولوية للتعليم وصناعة الكوادر المدرّبة، لكن هذه النظرية تعرضت للكثير من التشكيك بعد التجارب الآسيوية التي أعادت للنقاشات الاقتصادية حيويتها. في المملكة، يحظى التعليم بحيز كبير لدى صنّاع القرار، والشاهد الأهم على ذلك، أنه رغم سياسة الميزانية الحالية، والتي طالت أنشطة اقتصادية حيوية، إلا أن ميزانية التعليم والتدريب وضع لها 200 مليار ريال. وإن هذا لمؤشر واضح على مكانة التعليم، والنظر له على أنه أولوية. في ذات الوقت، تخرج بين الفينة والأخرى، ملاحظات شتى على مستوى التعليم ومخرجاته، وعدم تمكنه من تلبية طموحات المستثمرين السعوديين، وبالتالي يؤثر على مستوى البطالة في المملكة، وعلى مقدرة الكادر الوطني على منافسة الأجانب في سوق العمل. لكن الاستماع الدائم للمستثمرين، وإعطاء طلباتهم أولوية، أملاً في أن يتحننوا على المواطن بوظيفة، ليس بالفكرة الصائبة دائماً. خصوصاً، وإن الدراسات الاقتصادية الحديثة وضعت حداً لهذه النظرية، من خلال المقارنة بين دول شرق آسيا، فعلى سبيل المثال، يعتبر التعليم في دولة كالفلبين متقدماً مقارنة بالصين أو فيتنام وهونغ كونغ، والعنصر الفلبيني مطلوب أكثر من أي أحد آخر من دول شرق آسيا، لكن حينما نقارن بين اقتصاديات هذه الدول مع حفظ الفوارق، نكتشف أن التعليم لا يلعب إلا دوراً ثانوياً في التأثير على الوضع الاقتصادي للبلد، بدليل وجود العمالة الفلبينية خارج بلدها، وليس السبب في ذلك ضعف الكادر بكل تأكيد، لكنه يكمن في عدم نجاح الاقتصاد الفلبيني على خلق فرص حقيقة، ومن أسبابها الرضوخ للهيمنة الأمريكية، واعتماد الاقتصاد على تصدير العمالة، وتحوله لاقتصاد ريعي، يعتمد على الحوالات الخارجية، في حين، إن دول مجاورة للفلبين، أقل منها كفاءة على مستوى الكادر، حظيت بمعدلات نمو أعلى؛ بسبب اتجاه اقتصادها نحو التصنيع والاهتمام بحماية المنتج المحلي. إن الفارق بين الموظف السعودي، والموظف الأجنبي، ليس في مستوى التعليم ولا الكفاءة، بل في الإنتاجية وتحمل ضغط العمل، والصبر على اشتراطات أصحاب رؤوس الأموال، الذي يبحث بعضهم عما يمكن السيطرة عليه، أكثر من مسألة مستوى تعليم الموظف، بل إن كثيرا من الأجانب يتعلم في المملكة أكثر مما تعلم في بلده، وحظي فيها بفرصة العمل في شركات عالمية، لم يكن يحلم في يوم ما بالوقوف على أبوابها. بالإضافة طبعاً لتكلفة العامل. إن التعليم لدينا عليه الكثير من الانتقادات، وهو في الكثير من مقرراته منفصل عن الواقع وعن التطور النظري والفكري والعلمي. آخر هذه الملاحظات كان ضعف مستوى الطلاب في اللغة العربية، وهي لغتنا الأم، وإحدى ركائز هويتنا العربية، وقد يعود الأمر لضعف المناهج، أو اتجاه الأهالي للاهتمام باللغة الإنجليزية تحوطاً لمستقبل أبنائهم الوظيفي، بما يصنع مجتمعاً أو فرداً منسلخاً عن ثقافته المحلية، ومتيماً بالثقافة الغربية. ما زال البعض يعتقد بالفكرة المنبوذة منذ مدة، بأن معضلة البطالة سببها فقط مخرجات التعليم، لكن الوقت ليس في صالحنا، فنحن في مرحلة تحول مهمة جداً، وضغوطاتها لن توفر أحداً، لذا علينا التأكد من صواب قراراتنا الاقتصادية. بهذا المستوى، فإن الاهتمام يجب أن ينصب على تعزيز الصناعة الكبرى في البلد، فهي بوابة الفرص الوظيفية، كما أنها بوابة إجبارية في مسيرة التنمية الاقتصادية، والخروج من شرنقة إدمان النفط. أخيراً.. إن المصانع المدعومة من الحكومة، يمكنها احتضان الكثير من الكوادر الوطنية. وكثير من الصناعات الناجحة في الدول التي حققت فوارق اقتصادية كبيرة، تمت بدعم الدولة الوطنية وإشرافها، وليس بتركها تحت رحمة اقتصاد السوق.