منذ إشراقة التوحيد والمملكة العربية السعودية تحمل في طياتها مسؤولية التنمية المستدامة، وشكلت لبنة هذه المسؤولية طموح الوصول الى البيئة الاقتصادية الملائمة التي تحقق غايات المجتمع لتعكس نمطا ثابتا لنهضة وطنية شاملة. وتكمن اهمية مفهوم محفزات الخدمة العامة باعتباره وسيلة لاستنباط الكيفية التي يتم بها رفع كفاءة اداء النشاط الاداري للاجهزة الحكومية تجاه تحقيق اهداف السياسة الاقتصادية الواردة في الخطاب الملكي الذي سيلقيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله خلال افتتاح أعمال السنة الاولى من الدورة السابعة لمجلس الشورى. ولا ريب ان مؤسسات الدولة ومنها مجلس الشورى تتطلع الى تعزيز كفاءة العمل الحكومي من خلال قراءة العوامل التي تساهم في ارتقاء الانتاجية للخدمات المقدمة من منسوبي المرافق العامة. ومن العوامل التي من الممكن ان تساهم في استشعار المسؤولية عند اداء الخدمة العامة هو مفهوم محفزات الخدمة العامة «Public Service Motivations». وتعددت تعريفات هذا المفهوم خلال القرن الماضي الى ان استقر مضمونه حديثا ليعرف بالثقافة التراكمية التي تشكل دافعا ايجابيا لمن يشغل وظيفة عامة للقيام بنشاط اداري منتج يساهم في توفير خدمة عامة مرتبطة بإحتياجات الافراد كخدمات مرافق الصحة والتعليم والبلديات. ويمتد ذلك المفهوم ليشمل نشاط الاعمال الذهنية التي تقدم الاستشارات المتخصصة لتلك المرافق العامة. وقد يطرأ تساؤل عن مكونات الثقافة التراكمية التي ترفع كفاءة أداء الخدمة العامة، وقد تصدى العديد من الباحثين لمحاولة الاجابة عن مكونات الثقافة التراكمية المحفزة للاداء الحكومي ومنهم «جيمس بيري» و«لويس وايز» من كلية العلاقات العامة في جامعة انديانا الامريكية اللذان تعددت ابحاثهما في مفهوم محفزات الخدمة العامة بين عامي 1990 و2010. واستقرت الآراء الاكاديمية الى ان احد أهم مكونات الثقافة التراكمية هو مبدأ الإيثار الذي يعرف بتقديم مصلحة الغير عن الذات في جلب المنفعة ودفع الضرر، ويرتكز الإيثار على دافع الحب لعمل الخير وتحقيق الصالح العام من خلال تقديم حاجة المجتمع عن الحاجة الخاصة وينجم عن الرغبة لبذل العطاء دون اعتبار للمنافع الذاتية المصاحبة له. ومن مكوناتها ايضا وجود الرغبة لخدمة الناس وترك بصمة واضحة تشجع الاخرين على العطاء بشكل يخدم الاهداف التنموية، وهذا الذي دفع العديد من الباحثين الى اهمية التمييز بين ثقافة العمل في القطاع الحكومي وبين القطاع الخاص من خلال الحفاظ على ثقافة العمل الحكومي حين يتم اعادة هيكلة الخطط الادارية بمعايير دارجة في ادبيات قطاع الاعمال. ويتفق العديد من خبراء العمل الاداري على ان هنالك محفزات ملموسة تجذب العديد من الافراد للعمل الحكومي مثل الثبات الوظيفي وفرص التدرج في العلاوة والترقيات إلا ان هذه المحفزات لا تندرج ضمن سياق مفهوم محفزات الخدمة العامة لأنها لا تقوم على اساس الرغبة في خدمة الآخرين وتتشابه في مضمونها مع الحوافز المادية الممنوحة في القطاع الخاص. وقد حاول «جيمس بيري» ايجاد مقياس لمحفزات الخدمة العامة يتكون من 24 بندا ويعتمد على عدة اسباب منها الشعور بوجود التزام تجاه المجتمع ووجود عاطفة تجاه التنمية الانسانية، إلا ان المقياس الذي اقترحه «جيمس بيري» خضع لعدة انتقادات دفعت البعض الى تطوير المقياس ليشمل بنودا اخرى مثل تناسب الشخص مع المهام الوظيفية وتناسب الشخص مع المؤسسة الحكومية بالإضافة الى تحديد نطاق المهام والهدف منها لتكوين تصور واضح عن ملاءمة هذه المهام الوظيفية مع غاية الخدمة العامة. ومن آثار الاهتمام بمفهوم محفزات الخدمة العامة تأسيس الأممالمتحدة لجائزة سنوية للخدمة العامة لتشجيع التفوق المهني في مجال الخدمة العامة وقد نالت السعودية عدة جوائز منها جائزة رفع درجة الاستجابة والشفافية في الخدمات العامة في عام 2010 وذلك عن نظام سنام لتبادل البيانات الجمركية المرتبطة بعمليات الاستيراد والتصدير الكترونيا بين القطاع العام والقطاع الخاص بالاضافة الى جائزة تطوير وسائل تقديم الخدمة العامة في عام 2011 وذلك عن برنامج يسر للتعاملات الالكترونية الحكومية. ولذلك من المنطقي ان يتم الاخذ بالاعتبار مفهوم محفزات الخدمة العامة حين يتم تحديث وزيادة مؤشرات الاداء في برنامج التحول الوطني. وقد سبق ان اشرت في مقال سابق الى برنامج التحول الوطني من حيث كونه وسيلة رقابية ذاتية للاجهزة الحكومية للتأكد من قيامها بواجباتها المنوطة بها، ولا ريب ان ذلك سوف يساعد مجلس الشورى في تخفيف عبء رقابته على اداء الاجهزة الحكومية من خلال قيام كل جهاز حكومي بمراقبة مستوى ادائه حسب مؤشرات الاداء المدرجة في برنامج التحول الوطني. وبالرغم من ان مجلس الشورى مؤسسة تشريعية تعنى بسن الانظمة والتشريعات بالدرجة الاولى، إلا انه يمارس دورا رقابيا لاحقا على اداء الاجهزة الحكومية من خلال التقارير السنوية التي تصدرها الاجهزة الحكومية. وسترتبط الرقابة اللاحقة برقابة ذاتية لكل جهاز حكومي لتخفف من وطأة تدني الاداء الذي لحق الاجهزة الحكومية سابقا. وحين يتصدى مجلس الشورى لاختيار ما يراه اولوية في التشريع، قد يواجه احتمال صعوبة الحصول على المعلومات التي يحتاجها مجلس الشورى اذا لم يكن تعاون الاجهزة الحكومية متجانسا مع ما يلزم لإعداد القواعد القانونية التي تكفل تنظيم النشاط الاقتصادي بالشكل المطلوب. ولذلك سيكون برنامج التحول الوطني مثالا تطبيقيا من خلال الافصاح عن البيانات والتقارير لتلك الاجهزة الحكومية والتي سترفع كفاءة العمل التشريعي لمجلس الشورى، وسيتمكن مجلس الشورى من الاستفادة من نتائج برنامج التحول الوطني واستيعاب ما تظهره تلك النتائج من تحديات تتطلب معالجتها من خلال تعديل او طرح انظمة تواكب رؤية المملكة 2030. ومن التجارب الدولية نستطيع القول ان مفهوم محفزات الخدمة العامة يساهم في تعزيز قدرات الافراد عند ممارسة العمل الحكومي والذي يخدم رفع مستويات الانتاجية في القطاع العام وهو الامر الذي يكفل استمرار النمو الاقتصادي الذي يعد احد اهداف التنمية المستدامة، خصوصا ان ادبيات العطاء والايثار والتواصي بالمعروف والتي تشكل مكونات الثقافة التراكمية لمفهوم محفزات الخدمة العامة يستقرأ معالمها مما ورد من آثار في الشريعة الاسلامية. ويمتد تطبيق هذا المفهوم الى كل من مارس الخدمة العامة سابقا حيث ان خدمة الوطن متاحة في العديد من المجالات ولذلك من المهم استمرار العطاء لكل ممارس للخدمة العامة سابقا لتبقى اسهاماته ظاهرة صحية تعكس جدية ابناء الوطن في تحمل المسؤولية تجاه التنمية المستدامة، وإذا توقف العطاء فلن ينسى الوطن ما قدمه أبناؤه لرفع راية التوحيد بين الدول وستبقى ابوابه مفتوحة للمزيد من العطاء في المستقبل لكل من عاد اليه شغف الإيثار.