مرة أخرى، يطرح موضوع المصالحة الوطنية في العراق الجريح. الجديد في الأمر أن هذه الدعوة تأتي هذه المرة من قوى سياسية ناصبت فكرة المصالحة وساندت الاحتلال الأمريكي لأرض السواد، وشاركت في العملية السياسية التي أقيمت على أنقاض الدولة الوطنية، وتغييب الهوية التي صنعت تاريخ العراق منذ مئات السنين. إن ذلك يجعل من هذه الدعوة أمرا مشكوكا في جديته، ويلقي علامات استفهام كبيرة على الدوافع التي أدت إلى طرحه في هذا المفصل الخطير من حياة العراق. لقد دعونا منذ أكثر من عقد من الزمن، في مقالات عدة إلى إنهاء شلالات الدم في العراق الشقيق، على قاعدة تحقيق مصالحة وطنية لا تستثني أحدا من مكوناته السياسية والاجتماعية، وإلغاء العملية السياسية التي هندس لها المحتل الأمريكي، والتي قسمت العراق إلى حصص بين الطوائف والأقليات القومية. واستنادا إلى عودة العراق إلى محيطه العربي، وإلغاء التنكيل السياسي بالقوى المناهضة للاحتلال. وانطلاقا من اليقين من أن أي مصالحة وطنية حقيقية في العراق الشقيق، ينبغي أن تعيد العراق إلى محيطه العربي، وتكرس انتماءه التاريخي للأمة العربية، وعلى قاعدة رفض التدخلات الإقليمية في شؤونه الداخلية، ننظر بعين الريبة والشك، في نوايا مبادرة تحقيق المصالحة الجديدة، لأنها تأتي على قاعدة التسليم بما هو كائن الآن، وليس على قاعدة تغييره. واستمرار ما هو كائن الآن، هو من وجهة نظرنا مشروع فتنة واحتراب وتفتيت طائفي، واستمرار لإضعاف العراق، وإبعاده عن محيطه العربي، الذي استمد منه حضوره التاريخي العريق. إن طرح أي مبادرة لتحقيق المصالحة الوطنية، في العراق، ينبغي أن تقوم على أسس معلنة، وألا تبدأ من فراغ. والقائمون الجدد على المبادرة لم يفصحوا عن رؤيتهم لشكل العراق الجديد، وكل ما لدينا عن هذه المبادرة هو إبداء نوايا، لا تسمن ولا تغني من جوع. والمبادرة تأتي في مرحلة تشهد غضبا في أوساط غالبية العراقيين، من السياسات التي اتبعتها حكوماتهم المتعاقبة، منذ جرى احتلال العراق، ومصادرته كيانا وهوية، والتي لم تفلح في إزالة أي من الاختناقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها العراقيون، جراء تركة الاحتلال، والتدخلات الإقليمية في بلادهم. والقبول بهذه المبادرة من غير الإفصاح عن أسس وطنية لها، هو تكريس لواقع الحال المزري، الذي غيب إرادة العراقيين، وحال دون تشكيل دولة عراقية قوية، تأخذ مكانها إلى جانب أشقائها العرب، في حماية الأمن العربي. وهو أيضا محاولة يائسة للجم التطلعات المشروعة للعراقيين في الحياة الحرة، ومقابلة الاستحقاقات الأساسية للعيش الكريم. وتعيد هذه المبادرة إلى الذاكرة، دعوة وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندليزا رايس، في منتصف 2005. إجراء تسوية بين أطراف العملية السياسية، وتحقيق مصالحة مع خصومها لحرمان المقاومة العراقية، التي تناهض الاحتلال الأمريكي والتدخل الإيراني في شؤون العراق، من الحواضن الشعبية. والمصالحة في كل الأحوال، ينبغي أن تكون نتيجة لتوافق بين أطراف مختلفة، وعلى قاعدة التكافؤ والمساواة، السياسية، وإنهاء العوامل التي أدت إلى إضعاف العراق، والتصدي لعوامل الاحتقان. ولن يغير من واقع الحال هذا إشراك وضمان الأممالمتحدة، في تحقيق هذه المصالحة، ما لم تتضمن تغيرات رئيسة في التشكيل والهياكل السياسية التي اعتمدت بعد سقوط بغداد، وما لم تتضمن أهدافا معلنة تطمئن العراقيين على مستقبلهم. والحديث عن الاحتقان الطائفي، ليس حديثا عن توازن في القسمة فقط، ولا ينبغي أن يقوم على أساس الكوتا، بل ينبغي أن يستند على مبدأ المواطنة، التي لا يمكن تحققها في ظل مفهوم المحاصصة. لقد اتكأت العملية السياسية برمتها على نهج الإقصاء والتفتيت، وإقرار النهج الطائفي. والمصالحة هي فعل مضاد للعناصر التي أدت إلى شيوع حالة الاحتقان وتكريس الأزمة. ولذلك لا ينبغي أن تستند على استمرار النهج والقسمة الطائفية. إن نقيضها هي أن يكون العراق لكل العراقيين، باختلاف أديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم السياسية وموقفهم الاجتماعي. ولذلك لا تقوم على مبدأ الشراكة في الوطن، بل على مبدأ الانتماء له، واعتماد الموقف الوطني بديلا عن الاصطفاف الطائفي والإثني. والخشية، كل الخشية أن المبادرة الجديدة لن تصل بالعراقيين إلى تحقيق الوعود بتسوية سياسية، لأن مَنْ طرحوها ليسوا مؤهلين أصلا لتحقيق ذلك، فهم مَنْ نحروا العراق، ومارسوا التطهير الطائفي بحق العراقيين. وأن الهدف الرئيس منها هو التضليل والتسويف، وتخدير الغضب الجامح الذي يفتعل في نفوس غالبية العراقيين، والذي بات يهدد مستقبل العملية السياسية بأسرها. والمطلوب هو استعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية ووحدة أراضيه، وإلغاء دستور برايمرز الذي أضعف الهوية العراقية، وقسّم الوطن إلى حصص بين الطوائف والأقليات القويمة ومنع التدخلات الإقليمية في صناعة مصيره ومستقبله، والانتصار لهويته العربية، وعودته قويا وشامخا.