لم يكن غريبا أن تستهدف مدينة الفلوجة من قبل الميليشيات الطائفية التابعة لحكام طهران. فالفلوجة كانت دائما، وعبر تاريخها التليد قلعة حصينة، من قلاع الإسلام والعروبة. يكفيها أنها حملت شرف لقب مدينة المساجد، لوجود ما ينوف على مائتي مسجد بها، رغم أن عدد سكانها لم يتعد 275000 نسمة. ومن هذه المساجد الجامع الكبير المؤسس عام 1899م، وجامع الخلفاء وجامع أبي بكر الصديق وجامع عمر بن الخطاب وجامع عثمان بن عفان وجامع علي بن أبي طالب، وجوامع أخرى كثيرة. تقع مدينة الفلوجة، ضمن محافظة الأنبار، على بعد 60 كيلو مترا شمال غرب العاصمة بغداد. وتسكن فيها عشائر وأفراد من قبائل عربية، تمارس حرفة الزراعة، وينحدر أغلب سكانها من عشائر الدليم، والجميلة، والجبور والكبيسات، والبوعيسى والعزة والجنابيين وقبيلة بني تميم، بالإضافة إلى مجموعة من العشائر الأخرى. وتشكل مع مدينة الرمادي، أهم مدينتين بالمحافظة. تشير الدراسات التاريخية إلى أن مدينة الفلوجة هي جزء من منطقة موغلة بالقدم، وإنها كانت آهلة بالسكان منذ زمن البابليين. وبنيت الفلوجة قرب مدينة الرمادي التاريخية والتي فتحها خالد بن الوليد عام 12 هجرية الموافق 633 م، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وخلال حكم الأتراك للعراق، جعل العثمانيون من الفلوجة محطة استراحة لهم في الطريق الصحراوي المؤدي إلى بغداد. وفي عام 1920 أبان الاحتلال البريطاني، شهدت المدينة اضطرابات بسبب مقتل الضابط الانجليزي جيرارد ليجمان على يد أحد شيوخ العشائر. وفي عام 1941م، حينما فرضت بريطانيا انتدابها على العراق، بعد أن احتلته قواتها في أعقاب الحرب العالمية الأولى وفصلته عن الدولة العثمانية، حاولت قوات الاحتلال البريطاني دخول الفلوجة لتأديب المقاومة الوطنية هناك، فواجهت مقاومة باسلة وشرسة من أهلها، وأمام الهزائم المتكررة التي لحقب بتلك القوات اضطرت إلى الانسحاب من المدنية. والواقع أن الرفض المستمر للتدخلات الخارجية، كان من أهم المعالم المعروفة في تاريخ هذه المدينة الباسلة. فقد عرفت بدورها الريادي في ثورة العشرين، ضد الاحتلال البريطاني، حيث شارك قادة العشائر ورجال الدين، بقيادة الشيخ ضاري، والد القائد السياسي المرحوم حارث الضاري، في تلك الثورة، التي انتهت إلى إعلان استقلال العراق. وعندما قامت القوات الأمريكية، بعد احتلال العراق عام 2003، بدخول الفلوجة وأخذ مراكز لها في مباني المدارس وبعض مباني الدوائر الرسمية الأخرى، احتج سكان المدينة على تصرفات جنود الاحتلال، وقتل سبعة عشر فردا في المواجهات بين الشعب الأعزل. وكانت تلك الحادثة هي الشرارة الأولى، التي أدت إلى انتشار عمليات المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي، وإلى ما بات معروفا بمعركة الفلوجة الأولى. وردت القوات الأمريكية على عمليات المقاومة بقصف مكثف انتقاماً من أهالي المدينة، تحت ذريعة القضاء على القاعدة إلا إن أهالي الفلوجة تصدوا للقوات الأمريكية، وحالوا دون سيطرتها على المدينة. وقد أدت هذه المقاومة، إلى قيام القوات الغارية بقطع تيار الكهرباء والمياه عن المدينة وقصفها بشكل متواصل، لأكثر من خمسة أشهر، لم يوفر المستشفيات والمراكز الطبية والمساجد والمنازل. تمسك أهالي الفلوجة، كما بقية سكان الأنبار، ومعظم المحافظاتالعراقية، برفضهم للاحتلال. ورفضوا العملية السياسية الطائفية التي هندس لها السفير الأمريكي، بول برايمرز، ودعمتها حكومة طهران والميليشيات الشيعية بقوة. وبسبب ذلك، تعرضت المدينة، إلى حصار قاس، وقصف جوي عنيف. وهجر سكانها، وسويت مساكنها بالأرض. لكن إرادة الحياة لدى أبناء هذه المدينة الباسلة، مكنتهم من إعادة بنائها. وبقي سكانها شأن جميع سكان الأنبار، يرفضون الاحتلال، وإفرازاته، ويتحدون مشاريع التقسيم التي تقف طهران خلفها. وليس من شك، في أن ما تعرض له الشعب العراقي من ظلم وجور، وقتل على الهوية، وتدمير واضح للدولة العراقية، ومصادرة كيانها الوطني، إضافة إلى قرار حل الجيش العراقي، وتزامن ذلك مع ما عرف بقرار الاجتثاث، قد أدى إلى معاناة أكثر من عشرة مليون عراقي، تشرد قرابة ستة ملايين منهم خارج العراق، وصمدت البقية الباقية، تحت نيران التسعير الطائفي. وليس بجديد القول إن الجيش العراقي تجاوز تعداد أفراده، بالعهد السابق، أكثر من مليون شخص، يتوزعون، بالجيش الرسمي، وبكتائب بمسميات مختلفة، كالحرس الجمهوري والجيش الشعبي. وإذا ما أخذنا النسبة المنطقية والمعقولة لعدد أفراد العائلة العراقية الواحدة وقدرناها بخمسة أفراد: زوج وزوجة وثلاثة أطفال، فإن ذلك يعني أن خمسة ملايين شخص، باتوا يعانون الفاقة والجوع والحرمان. يضاف إلى هذا العدد من شملهم قرار الاجتثاث، ويعدون بمئات الألوف من الأفراد، وهذا يمكننا من معرفة حجم الكارثة التي تعرض لها العراقيون. إن ظروف المحنة القاسية، وتغول الميليشيات الطائفية، فتحا الأبواب على مصاريعها لحركات التطرف، كالقاعدة وداعش، حيث وجدت في حالة الغضب والاحتقان التي عاناها العراقيون أرضا خصبة. وهكذا تواجدت هذه التنظيمات المتطرفة، في أكثر المحافظات معاناة وقهرا، نتيجة للتدخلات الإيرانية. ذلك ليس تبريرا لما جرى، بل هو محاولة لوعي تسلسل الأحداث، ووضعها في سياق موضوعي وتاريخي صحيح. من جهة أخرى، لم تر إيران في وجود القاعدة وداعش في المراحل الأولى، شيئا سلبيا، يهدد مصالحها. بل وجدت فيه فرصة للضغط على الوجود العسكري الأمريكي في العراق، لكي ينسحب نهائيا منه، ويجري تسليم هذا البلد العريق على طبق من ذهب لها. وهكذا بدأت طهران تسهم في تعزيز التنظيمات المتظرفة ودعمها بالمال والسلاح، لكي تؤدي ما تراه مطلوبا منها. في هذا السياق، يتحدث أبناء الأنبار، ومن ضمنهم مراسل محطة ال بي بي سي، أن العملة الإيرانية، «التومان»، كانت هي العملة الرائجة بمحافظة الأنبار في السنوات الأولى للاحتلال الأمريكي للعراق. وذلك بسبب الدعم الهائل الذي قدمته حكومة طهران للقاعدة وداعش وبقية التنظيمات المتطرفة. أثمرت السياسة الإيرانية، في دعم الإرهاب بالعراق، وانسحب الأمريكيون من هذا البلد العريق، بعد وصول الرئيس الأمريكي باراك أوباما لسدة الحكم. وانقلب السحر على الساحر. فأبناء الأنبار الذين تصدوا بصدورهم العارية للاحتلال الأمريكي، لم يقوموا بذلك من أجل خاطر طهران، بل للدفاع عن عروبتهم، ولضمان استقلال وحرية بلادهم. ومرة أخرى، شهدت الأنبار، وعلى رأسها مدينة الفلوجة غليانا شعبيا واسعا، ورفضا للميليشيات الطائفية الشيعية ولتدخلات طهران. ووجدت داعش وأخواتها مناخا ملائما للعمل في هذه المحافظة. كما وجدت فرصتها أيضا في العمل، في محافظات نينوى وصلاح الدين وبعقوبة. وقبل سنتين من هذا التاريخ، تمكنت داعش بمساعدة العشائر العراقية من الإطباق على تلك المحافظات. وكان الأبرز في هذا الحدث هو سقوط مدينة الموصل، التي تعتبر المدينة الثالثة في العراق، بعد بغدادوالبصرة، بيد داعش. في حمأة المواجهة بين الشعب العراقي، وبين الميليشيات التابعة لطهران، والتي تحمل الجنسية العراقية، وبشكل خاص ما يجري من مواجهات في الأنبار ونينوى وصلاح الدين وبعقوبة، اختلط الحابل بالنابل. وباتت تهمة الانتماء لداعش جاهزة، توجه بسهولة إلى كل من يرفض سياسات طهران، والحكومة المتنفذة في بغداد، والتي تأتمر بأوامر الولي الفقيه في قم. مدينة الفلوجة، المدينة العريقة، كان لها حصة الأسد، من الممارسات الوحشية لعملاء طهران، يكفيها أنها بقيت تحت الحصار، لأكثر من عشرة أشهر. وبات الحديث عن مجاعات أهلها ومعاناتهم، يتصدر وسائل الإعلام المرئية، وكبريات الصحف العالمية. ولم تكتف الميليشيات الطائفية بالحصار، والإبادة البطيئة لأهلها، بل قامت مؤخرا، وتحت شعار تحرير العراق، بهجمات وحشية استهدفت الأخضر واليابس، ولم يسلم أحد من قصفها وهجماتها. وفي الأيام الأخيرة، أعلنت الحكومة المركزية في بغداد أنه تم الانتهاء من عملية «تحرير» مدينة الفلوجة، بعد أن جرت تسويتها بالأرض. وبعد أن قدم شعبها المظلوم آلاف الضحايا، دفاعا عن وجوده واستقلاله، أمام الغزو الشعوبي الحاقد. لماذا تم اختيار الفلوجة دون غيرها، للهجوم عليها من قبل ما يعرف بالحشد الشعبي، وبقية الميليشيات الطائفية وما يعرف بجيش العراق، وتركت الموصل، والتي تحمل عودتها لسلطة المركز بعدا سياسيا أثقل بكثير من احتلال الفلوجة؟! الإجابة على هذا السؤال تعيدنا مرة أخرى، إلى الجغرافيا السياسية، ولخريطة العراق، وموقع محافظة الأنبار في هذه الخريطة. تقع الأنبار في الجزء الغربي من العراق، وهي أكبر محافظة فيه، حيث تعبر من جنوبالعراق إلى شماله. والطريق من بغداد إلى دمشق يمر عبرها، وعبر الفلوجة. ويشق نهر الفرات القادم من تركيا عبر الأراضي السورية، وصولا إلى العراق، أراضي الأنبار، متجها إلى الجنوب الشرقي، حيث يصب في الخليج العربي، عبر ما يعرف بالقرنة، قريبا من شط العرب. بالنسبة لطهران، يشكل خروج محافظة الأنبار عن سيطرتها، ثغرة كبرى، في استراتيجيتها المتعلقة بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسط، عبر الأراضي السورية، وانتهاء بجنوبلبنان، حيث يشكل حزب الله قاعدة حصينة للاستراتيجية الإيرانية، التي تعتبر المتوسط عمقها الاستراتيجي غربا. لهذه الأسباب، اختارت طهران أن تواجه المقاومة العراقية، وشعب العراق، بالفلوجة وليس في الموصل. فالإيرانيون ليسوا معنيين بوحدة العراق واستقراره، بل بتأمين مصالحهم الحيوية، وعمقهم الاستراتيجي الافتراضي. ولذلك تتم المماطلة والتأجيل، حين يتعلق الأمر بعودة الموصل، إلى المركز، ويجرى التركيز على محافظة الأنبار، كنقطة وصل حيوية، بالأراضي السورية، من بغداد إلى دمشق. جرائم وحروب إبادة يندى لها جبين الإنسانية خجلا، ارتكبت بالفلوجة في وضح النهار، وأمام صمت مريب من المجتمع الدولي بأسره. وليس لهذا الشعب المظلوم سوى رحمة الله تعالى ولطفه. وهؤلاء الضحايا هم إخوة لنا في الدين والإنسانية، وهم أشقاء عرب، تربطنا بهم رابطة العقيدة والدم واللغة والتاريخ. ولن يكون مقبولا من عربي ومسلم، أن يتفرج على معاناتهم، دون أن يقدم لهم يد العون والمساندة. فذلك حقهم الطبيعي والأخلاقي علينا. وأضعف الإيمان هو فضح ممارسات طهران، وكشف في فريتهم الخائية في اتهام من يرفض نهجهم وسياساتهم بالارتباط بداعش. فالحقائق التاريخية، تؤكد أن كثيرا من تنظيمات التطرف والإرهاب والفتنة الطائفية هي من صنع ملالي إيران ومن إفراز سياساتهم. والحال، إن حكام طهران لم يتركوا أية مساحة من أرض السواد، إلا وقاموا بتدنيسها، بدءا من البصرةجنوبا حتى زاخو في شمال العراق. ومواجهة تخريب إيران لن تكون ممكنة، إلا بالتعرض إلى أس المشكلة، التي يعانيها العراق، منذ احتلاله عام 2003. فالتصدي ينبغي أن يوجه العملية السياسية، التي شكلت وفقا لمسطرة الطوائف والأقليات القومية. ولن يكن بالإمكان تحقيق ذلك في ظل وجود جيش وطني، وهزيمة للتيارات الشعوبية في هذا البلد العريق. لا بد من التأكيد مجددا على عروبة العراق، وتأسيس جيش وطني، يستند على عقيدة عربية خالصة، تمثل إجماع العراقيين على رفض تدخلات طهران، ونزعاتها الشريرة، وعودة المهجرين من أحياء مدينة بغداد، كحي العدل والشرطة واليرموك إلى أماكن سكناهم. إضافة إلى عودة المنفيين، وهم بالملايين، إلى ديارهم. وفضح ممارسات طهران الوحشية، عبر كل المؤسسات الدولية وعلى رأسها هيئة الأممالمتحدة. وكشف ادعاءات التحرير، التي هي تدمير للأخضر واليابس من أرض العراق. إنه طريق صعب وطويل، ولكنه الطريق الأخلاقي الذي يرسخ إنسانية الإنسان وحقه في الحياة الكريمة، ويعيد للأمن القومي العربي اعتباره.