في هذا الأسبوع سيكون الحديث ترفيهيا، وهو عن واحدة من أشهر الأغنيات العربية، وبعض الذكريات العديدة والمواقف، التي قد يشترك فيها بشكل أو بآخر الكثير من القراء في الفترة الزمنية نفسها، كما سنتوقف عند بعض كلماتها وحالاتها، وما تتضمنه من حكمة ومعلومة وموقف، أو قصة معيشة، ومثلٍ سائر، وغير ذلك. إن الأغنيات التي لا تزال خالدة بصرف النظر عن بلد ولهجة المطرب المؤدي لها تعكس بلا شك صورة عن جو الزمن الذي انطلقت فيه ومنه، ولن نطيل في ذلك بما هو غير خاف على القراء الكرام، لكن حسبنا أن نطرح سؤالا قبل الدخول في شيء من تلك الذكريات: لماذا شباب اليوم لم يعد يتوقف كثيرا عند أغاني عصره وما أكثرها، ونراه يبحث عن أغاني الستينيات والسبعينيات الميلادية المنصرمة، ويتفاعل معها ويغنيها؟ الجواب نتركه للقارئ، وندخل الآن في عرض ورقة واحدة من كراس الذكريات والمواقف الطريفة: * أغنية «قارئة الفنجان» لعبدالحليم حافظ: غنى عبدالحليم حافظ هذه الأغنية في عام: 1396ه، 1976م، وقد كانت الصحافة العربية ووسائل الإعلام آنذاك، توالي نشر أخبار تسجيل هذه الأغنية وصور عبدالحليم ومراحل تدريبه عليها، وملحن الأغنية الموسيقار الراحل محمد الموجي، وكاتب كلماتها الشاعر الكبير نزار قباني- رحمه الله- وكان يتم نشر ذلك بتكرار متواصل ومكثف، ويصاحب ذلك بالطبع نشر مقاطع من الأغنية أو القصيدة، وقد بدأت في ذلك منذ مطلع عام 1975م، الموافق: 1395ه، وفي معظم المطبوعات العربية كما ذكرت، حتى أننا قد عرفنا معظم خفايا وظروف هذه الأغنية، قبل غنائها، بل أصبحنا ننتظرها بفارغ الصبر، في كل يوم، دون أن ندري متى سيكون ذلك؟! وفي إحدى الليالي، كنت أذاكر دروسي في غرفتي الصغيرة في أيام الامتحانات، في منزلي الطيني الهادئ بقرية القارة بالأحساء.. والوقت يقترب من العاشرة والنصف مساء، وكان يرافقني وقتئذ جهاز «راديو» صغير من نوع «توشيبا».. يؤنسني من وتيرة المذاكرة.. وبينما كنت «أفرفر» في مفتاح المحطات في جهاز الراديو، وإذا بصوت وردة الجزائرية يصدح بأغنية: «خليك هنا خليك، بلاش تفارق» فقلت: حاضر.. على أمرك يا ست وردة.. سأبقى هنا عند هذه المحطة، ولن «أفارق»! وبقيت أستمع إلى هذه الأغنية حتى نهايتها. وبعدها مباشرة تمت إذاعة الخبر التالي من المحطة نفسها: «أيها الأخوة المستمعون.. سننتقل معكم بعد قليل إلى إذاعة خارجية على الهواء مباشرة من مقر حفل «شم النسيم»، حيث سيشدو الفنان الكبير عبدالحليم حافظ برائعته الجديدة قارئة الفنجان».. فتسمرتُ بدهشة غامرة في مكاني، بنفس الجلسة التي كنت عليها وأنا استمع إلى الخبر، ثم انتقلتُ إلى رف مصنوع من الآجر والجص في غرفتي مرصوص عليه كتب متعددة، وتناولتُ منه ديوان نزار قباني الذي يحمل عنوان: «قصائد مُتوحشة»، والذي هربتهُ في «فانيلتي» من البحرين في التسعينيات الهجرية، والسبعينيات الميلادية الماضية قبل قيام الجسر بين البلدين، والمكتوب بخط يد نزار قباني نفسه، وهذا الديوان هو الذي اختار منه عبدالحليم أغنيته «قارئة الفنجان». تناولت الديوان، وذهبت للقصيدة لأتابع كلماتها مباشرة بين الديوان، وعبدالحليم. تركت المذاكرة، «أي مذاكرة أي خرابيط».. ثم استمعت بإنصات جيد إلى الأغنية كاملة، مصحوبة بكل ما حصل فيها من أخذ ورد بين عبدالحليم، وبعض المُندسين الذين أرادوا إفساد الحفل.. استمعت إليه في ذلك الجو المشحون الذي كان من المفترض أن يكون بهيجا وشاعريا، لا يشوبه شيء، وهو يقول: «على فكرة أنا كمان بعرف أزعق، وبعرف اصفر... إلخ». الغرض من سرد هذا كله.. هو حضور أغنية «خليك هنا» في هذا التوقيت بالذات، لتكون أغنية مناسبة لعدم التنقل بين محطات الإذاعة، وإمكانية الاستماع إلى رائعة عبدالحليم التي منها: بحياتك يا ولدي امرأة عيناها: سبحان المعبود فمها مرسوم كالعنقود ضحكتها أنغام وورود والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا قد تغدو امرأة يا ولدي يهواها القلب.. هي الدنيا ولن أتناول التغييرات والحذف والاختلافات العديدة، بين نص القصيدة الأساس كما كتبها ورصدها الشاعر في ديوانه، والنص الذي غناه عبدالحليم، فبعض تلك التغييرات منطقية وجميلة، وأفضل من النص نفسه.. فعلى سبيل المثال جاء في النص الأصلي للقصيدة: فحبيبة قلبك يا ولدي نائمة في قصر مرصود والقصر كبير يا ولدي وكلاب تحرسه، وجنود وقد تم حذف العبارة الأخيرة من الأغنية.. لأنها غير مناسبة أن تكون فيها.. إلى غير ذلك. ولأن مساحة المقال محدودة فنكتفي بهذه الورقة.. وأدعوكم للاستمتاع بقارئة الفنجان الرائعة معنى ولحنا وجمالا..