يأتي فيغسل القلوب قبل الأرض، تتنفس عبقه نسايم الأرض وشذى السماء، تهتز الأرض وتربو عندما ينهمر الغيث مدرارا، يقرع نوافذ النائمين في المساء ليشرق صبح جديد ويوم استثنائي ليس ككل يوم، ندعو ونصلي حتى يأتي فتفرح الطيور والحجر والشجر، إنه المطر.. إكسير الحياة ووهبة الخالق فمنه كُل شيء حي. إنه المطر الزائر البريء من خلل المسارب الهندسية واهتراء البنية التحتية ننتظره شهورا وقد تكون أعواما، وإذا حل قلنا عمل المطر! وسد المطر! وقطع المطر! وجرف المطر! وهو بريء مما نحن فيه براءة الذئب من دم يوسف! جعلناه شماعة نعلق عليها ضعفنا ودرايتنا، تحمّل المسكين مشروع مقاول ينقصه المال، وعمل مهندس مراقب ينقصه الإخلاص لوطنه وأهله، فتقابل النقيصان ليتحمل الزائر من السماء تبعيات هذا الخلل المتواصل على الأرض لمشاريع وقشور جميلة على سطح الأرض وفجوات وثغور بداخلها. إنه المطر البريء من جرف السيارات وإزهاق الأرواح لمراهقين كانوا يعتقدون أنهم فوق قدرات الطبيعة، ليجدوا أنفسهم جثثا منتفخة على بعد مئات الأمتار من نقطة انطلاقهم. إنه المطر البريء من اختراق المياه للأبراج والأصرحة والأسواق، من خلال ثغرات تركتها أيد لا تحرك عقولها وهي تشيد صروحا سكنية واقتصادية واجتماعية، من البدهي أن تحسب حساب نسمة الهواء كيف تدخل ومن أي مكان تخرج. لينتهي بمقولة (طبطب وليّس وكل شيء يصير كويس!) إنه المطر البريء من وقف عجلة التعليم وتعليق العلم لأيام؛ لسوء تأسيس المدرسة والمعهد والجامعة، ليس خوفا من المطر ولكن عرفانا ويقينا بهدر ملايين الريالات في مشروعات أقل ما يقال عنها إنها أنشئت ليوم صحو مشمش وليس ليوم عاصف ماطر. إنه المطر.. لا يتحمل جزءا من مسؤولية تكسير السيارات وانقلابها وانجرافها على طرق لم تصمد أمام ساعة مطر ولا يمكن أن يكون هو من تركها حفرا وأخاديد وانخفاضات وارتفاعات! إنه المطر.. الاختبار الحقيقي و«موظف نزاهة» الوحيد الذي لن يتقاضى ريالا واحدا، وكتب تقارير قد تعجز عن كتابتها لجان من ذوي الاختصاص والدراية والمسؤولية. هو المطر.. هي القطرات التي تسقط على دكا وبرلين وجزر الكاريبي ولوس أنجلس دون أن تحدث خللا في التكوين العمراني والخدماتي للمدن! هو المطر الذي جاء في أكثر من أربعين موضعا في القرآن الكريم، ومنها «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ». أخيراً.. اللهم زدنا من فضلك العظيم يا صاحب الفضل العظيم.