طبيعي أن يكون الكفيف محل اهتمامنا وشفقتنا، وهذه صفة طبيعية من صفات النفس البشرية، فالشفقة مشاركة وجدانية وشعور إنساني جميل، نمارسه مع أي إنسان فاقد حاسة من حواسه الخمس، لكن شفقتنا تتضاعف مع الكفيف، أكثر من غيره من أصحاب الاحتياجات الخاصة، فتجدنا نستحضر في أذهاننا معاناته، في صعوبة حركته بحرية، فكيف له ذلك وهو محبوس لا يستطيع مغادرة عتمته؟ قد حُرِم من نعمة البصر ومتعة النظر لجمال الأشياء من حوله، هكذا نستشعر عمق تأثير الإعاقة النفسي على الكفيف، فنتخيل كآبته ونظن انه عبء على غيره، يعيش تعاسة لا نهاية لها، عموما هذا مجمل نظرتنا القاصرة للكفيف، فنحن من حيث لا نشعر، نبالغ في شفقتنا على المكفوفين، وهذا خطأ نرتكبه جميعا، فأنا واحد من المبصرين، الذين يطاردون الكفيف بنظرات الشفقة، التي لا يحبذها ولا يستجديها، ولم أصحح مفاهيمي عن المكفوفين إلا قبل سنوات، عندما رافقت إحدى حملات الحج، التي استضافت عددا من الإخوة المكفوفين، وكنت أشاهدهم في الممرات، يتلمسون الجدران ليصلوا لخيمتهم، وأتساءل كيف يمارس هؤلاء حياتهم الطبيعية، وكل شيء من حولهم ظلام دامس؟ بقيت أسئلتي بدون إجابة ونظرتي دون تغير، حتى جاء اليوم الحادي عشر من أيام الحج، الذي اعتادت الحملة أن تقيم فيه برنامجا ترفيهيا وثقافيا ومسابقات، وكان الإخوة المكفوفون في مقدمة الحضور، كان من ضمن المسابقات فقرة، تتكون من صندوق به عدد من المفاتيح، فيتعرف المتسابق على واحد منها، ثم يخلط مرة أخرى مع المفاتيح، والمطلوب التعرف على نفس المفتاح للفوز بالجائزة، الحقيقة عجز جميع المبصرين، في التعرف على نفس المفتاح، وكانت المفاجأة المستبعدة أن طلب أحد المكفوفين المشاركة، وتحدى الجميع بأنه سيتعرف على المفتاح، ولكن كيف سيتعرف على المفتاح وهو لم يره، ولم يتحقق ذلك للمبصرين؟ طلب الكفيف لمس المفتاح ثم مرر أسنان المفتاح على إبهامه مرتين، بعدها تم خلط المفتاح مع مجموعة المفاتيح، تقدم الكفيف بكل ثقة والجميع يترقب، وخلال ثوان تعرف الكفيف على المفتاح، من خلال إبهامه «الذكي»، وبدت علامة الاندهاش على وجوهنا، ثم طلب الشاب الكفيف «المايك»، ليزيد من دهشتنا بأسلوبه البلاغي وفصاحته، والكم المعرفي والثقافي الذي يكتنزه، وكان من أبرز ما تضمنته كلمته، رسالة وجهها لأصحاب الشفقة، فلفت نظرنا بأن الكفيف معتد بنفسه ولا يعيش في عزلة ولا غربة، ولا يحتاج أبدا لشفقة المبصرين، بقدر ما يطالبهم بالعدل وتساوي فرص التوظيف وتسهيل معاملاتهم، وأن لا يقف المبصرون عائقا أمام مطالبهم وحقوقهم المشروعة، وذكر أن الكفيف عند تواجده في مكان جديد، فهو يحتاج للمساعدة فقط لساعة زمان، حتى يتعرف على تفاصيل المكان، ثم يعتمد على نفسه، وذكر أن الكفيف يتمتع بقدرات ذهنية وملكة حفظ يتفوق بها على غيره. وأغرب ما سمعت منه، أن الكفيف يشعر بسعادة يعجز عن وصفها، حتى أنه لا يوجد كفيف يتمنى أن يكون مبصرا، الحقيقة كان ذلك اللقاء نقطة تحول، جعلتني أنظر للكفيف نظرة مغلفة بالإعجاب والتقدير!! لاشك أن فقدان البصر فيه ما فيه من المعاناة، ولكنك تجد المكفوفين مبصرين بإرادتهم وقوة عزائمهم، صحيح فقدوا حاسة ولكنهم فعلوا بقية الحواس، فلا توجد فروق بينهم وبين المبصرين، في كثير من القدرات بل تفوقوا عليهم، فلم تقف إعاقة البصر أمام طموحاتهم العلمية والعملية، وهناك نماذج مشرفة كثيرة من المكفوفين، كان لهم دور ريادي بارز، سطر التاريخ والسير إبداعاتهم ومساهماتهم في العلم الشرعي والشعر والأدب!! كاتب متخصص بالعلوم العسكرية ومهتم بالشأن الاجتماعي