كان يفترض أن يستمر لبنان أنموذجاً وشمعة للتعايش الديني والمذهبي، وأن يكون هذا التنوع قوة للبنان، مثلما كان عبر التاريخ، قبل أن تهب نسائم عمائم الخمينية وخدع حسن نصرالله، وتتلبس لبنان حالة مستعصية من الاستقطاب المروع وتقلبات مزاجية مخيفة، لا تليق بتنور اللبنانيين وتنوعهم التاريخي وانفتاحهم الفكري والروحي. لبنان بلد صغير، لكنه بلد عجائب ومدهشات، فالأضداد، عبر التاريخ والقارات والحضارات والصراعات، لا تلتقي أبداً، إلا في لبنان، حيث تتحقق المعجزات، فاليساري يتحالف مع اليميني، والليبرالي يتحالف مع الديني، والقومي العربي يتحالف مع القومي الفارسي، والمتحرر يتحالف مع الطائفيين. وحزب يكثر الضجيج بمحاربة إسرائيل، لكنه يصب نيران مدافعه في قلب حمص وحلب. ونواب ومثقفون يقدمون أنفسهم أنهم علمانيون متحررون لكنهم يتغنون بعمامة السيد ومكرماته ومعجزاته الماورائية وحتى شعوذاته. وترى لبنانياً مهيباً يلبس بدلة عصرية وربطة عنق، ويلوك مصطلحات أجنبية عن التحرر والنهوض والتنوير، لكن في داخله جلبابا وعمامة ومدافع ومتاريس حربية، و«متفجرات» طائفية. أخطر ما في هذه السلوكية الذرائعية أنها تفرغ الشعارات المتنوعة من أي معنى وتختطف لبنان و«تسبي» اللبنانيين لحساب المجهول وسوق المزايدات. تحققت ثلاثة أحلام في لبنان، تحقق للجنرال ميشيل عون أن يكون رئيساً ب«أي ثمن»، بعد أن ابتلى بشهية عارمة للرئاسة، ودفع ثمناً باهظاً، على حساب عربية لبنان وليبراليته وديمقراطيته ونورانيته وحتى اقتصاده، بالتحالف مع حزب الله، الميليشاوي الأجنبي الشمولي الديني الطائفي الذي يرضع من أثداء الخامنئي الفارسية العنصرية. وتحقق حلم اللبنانيين أن يجري «تذويب» منصب الرئيس وتحريره من حالة الجمود والتجمد. وقد طالت حالة التعطيل إلى درجة أن كثيراً من اللبنانيين ودوا رئيساً ب«أي ثمن»، حتى وإن كان ميشيل عون، كي لا يتحول بعبداً إلى بقايا أطلال لأمة قد خلت. وتحقق حلم ثالث هو حلم سعد الحريري الذي كان بدوره، ولسبب غير مفهوم وغير مبرر، يود انتخاب رئيس ب«أي ثمن» أيضاً، لهذا السبب سمى ثلاثة شخصيات للرئاسة ثم تخلى عنهم وهرع راكضاً إلى الجنرال. وسمى هذه التي تبدو هزيمة موجعة «تضحية»، ولن تكون مبادرته تضحية إلا إذا كانت قد ضخت في دماء ميشيل عون مضادات حيوية، توقظه من سباته وتحرره من تبعيته لحزب الله وإيران وتنعش في دمائه «كريات الأرز» اللبنانية الخضراء، ويتخلص جسمه من سموم الكريات الصفراء الطائفية، وهذا ستثبته أو تنفيه الأيام المقبلة. إذا كان ميشيل عون الرئيس هو نفسه ميشيل عون، الذي يدلي بتصريحات مثيرة للسخرية قبل أشهر وسنوات، و«الترس» النشط في استراتيجية تحويل لبنان إلى جمهورية إيرانية، (مثلما هو تعهد حسن نصرالله)، فإن لبنان، درة المتوسط وشمس الروائع، سوف يغرق في المشاكل والنفايات، ويغوص في الوحول الإقليمية، واشتباكات الحروب الطائفية والحزبية ويصبح مجرد محطة إيرانية لشن عدوان على الأمة العربية والتاريخ. أما إذا تحرر عون من التسلط الإيراني والابتزازات ولغة التخويف التي يمارسها نظام بشار الأسد، البيدق الإيراني الآخر، فإن شمعة أمل سوف تضيء في ليل اللبنانيين المعتم، تعيد للبنان عربيته وثراءه الاقتصادي، وبهجته وصفاءه وأنوار تنوعه وتفتح رحباً لعبقرية العقل اللبناني المبدع المتفوق مهنياً، ويكون لدينا الأمل أن تعيد بيروت أمجادها التي تنازلت عنها، صاغرة، لمدن تحررت من وهن التبعية والحزبية والشعارات الاستهلاكية المخدرة وسوق المزايدات. ¿ وتر هذا لبنان، درة المدائن وفردوس الأرز، وفتنة البساتين. تتخاطفه الحراب والمخالب، مأرقاً بضجيج المزايدين، والشعارات الموبوءة. يجاهد كي يعود لأمواج المتوسط صباحها وللضيعة عروس السفوح، بهاؤها، وللأرز عناق الشمس.