في كتاب الأمير تركي بن عبدالله بن عبدالرحمن «السعودية: الموروث.. والمستقبل، التغيير الذي يعزز البقاء»، (توزيع الفرات للنشر) يطرح المؤلف رؤيته للدور الذي يتمنى أن يقوم به أصحاب الفضيلة العلماء لمواجهة تحديات المستقبل، وما طرحه المؤلف ربما يتفق مع رؤية النخبة التي تتطلع إلى نقلة في الفكر والممارسة حتى نكرس تطبيق الشريعة الإسلامية وإثبات نجاحها في كل زمان ومكان. ماذا يريد المؤلف من القيادات الدينية؟ إنه يريد منهم القيام بدورهم الحقيقي للذب عن الشريعة، وأيضا يريد منهم التطبيق الذي يجعل من الشريعة نظاما متكاملا يساعد في مواجهة متطلبات المستقبل.. يقول: «في العصر الحديث لا بد من تسجيل ما يتمتع به علماؤنا من صفات حميدة وصدق في الحديث والمنهج، فدور علماء، مثل محمد بن إبراهيم، وعبدالعزيز بن باز، ومحمد بن عثيمين.. وغيرهم من كبار العلماء، كان فاعلا في تخطي كثير مما واجه أمتنا من صعوبات واختناقات. ولا يزال السواد الأعظم من الناس يكن لهم جميعا، بمن فيهم كبار علماء اليوم، الكثير من الاحترام والقبول... وما نتوقع منهم- وهم قادةٰ لنا أن يصغوا بوضوح وصبر إلى مطالبنا وما نعانيه ويتعرفوا على حالنا ومصالحنا كما نراها نحن ونعلمها، ويُيسروا لنا كما امرهم رسول الأمة- صلى الله عليه وسلم». هنا يستذكر دور ابن تيمية التاريخي في معالجة الفتاوى التي تناسب العصر، ودوره في الدفاع عن الإسلام «مما اعتراه من شبهات في زمان عصيب»، ومجابهته المغول في بلاد الشام، فقد كان له دوره في شد أزر المسلمين لإزالة الآثار السلبية للحروب الكثيرة إبان غزو المغول الشام، ويرى المؤلف أن ما قام به ابن تيمية هو نفس ما قام به الشيخ محمد بن عبدالوهاب لدينا حيث كان له الأثر الكبير «من خلال دعوته الإصلاحية التي أدت في أبعادها المتعددة إلى تغيير مسار تاريخ الجزيرة العربية وحياة سكانها». هذا الدور الهام للعلماء، المساند الداعم للناس وللحاكم، يرى أنه يبرز الآن ويصبح ضروريا في ظروف بلادنا المعاصرة، بالذات مع التغيرات المتسارعة، إذ «الحياة الحديثة ومنتجاتها ومتطلباتها أثرت وغيرت- على نحو يكاد يكون كاملا- جميع مظاهر حياة الإنسان في أصقاع الأرض كافة ولا استثناء لأحد في ذلك، كما أنها أثرت كثيرا في مفاهيم وثقافة الإنسان وطرق تفكيره وأفكاره و تعاملاته، لقد أصبحت مظاهر الحياة أكثر تعقيدا وترابطا من أي زمان مضى». إنه يرى أن مسؤولية علمائنا لا تقف عند الدفاع عن الشريعة وحفظها، كما هو معروف الآن، وردهم على منتقديها وتمسكهم الشخصي بها بغض النظر عما يجري حولهم، بل عليهم، عبر التجاوب المرن مع تطورات حياتنا المعاصرة، جعل الشريعة ذاتها صالحة لكل زمان، واستنباط الفتاوى والأحكام التي لا تخرج عن أساس الشريعة. يقول: «نامل من علمائنا عدم الركون فقط إلى مقولة إن موقف الشريعة ثابت من كل شيء، وألا يحاولوا أن يأتوا بجهد يتماشى مع الشريعة ويلم بمتغيرات الزمان والمصالح المعاصرة للأمة والنَّاس. فهذا تقصير واضح لدورهم الجليل، ولن يكون التاريخ معهم متسامحا لما يلحق بتطبيق الشريعة من ضرر. لقد أراد الله لفقهاء اليوم أن يجابهوا قضايا وتحديات للشريعة لم تشهدها في عصورها السابقة كافة، وهذا قدرهم وليس لهم إلا القيام بهذا الدور الذي إن لم يكن مكتملا وناجعا وموافقا لمصالح الناس في هذا العصر كما تتطلب الشريعة فإنه دور ليس كاملا ولا يؤدي إلى براءة الذمة». ويتوسع في الحديث عن التحدي الكبير مذكرا أن العلماء عليهم أن يزيحوا موجات القلق والشكوك التي اجتاحت أجيال اليوم نتيجة لما يجابهونه في حياتهم من تأثيرات تتلاحق بسرعة قياسية، فركون العلماء اليوم بقصد أو من دون قصد إلى تفاصيل الموروث فقط لن يفيد وحده.. «اذا أراد علماؤنا أن يحموا نشأنا الجديد فعليهم كسبهم بالإقناع، فعصرنا اليوم عصر الإقناع لا عصر التلقين». إنه يريد منهم التغيير القائم على ثوابت الشريعة. لقد واجهت حياتنا قبل عقود متغيرات تقنية وفكرية وتم تجاوزها، والآن نواجه نفس الموقف المتردد المتحفظ من مستجدات دخلت حياتنا، ويقف المؤلف عند نماذج منها مثل الموقف المتحفظ من السينما الذي يخشى المفاسد، وهو موقف كانت له مبرراته في السابق، وعموما هو متفائل أن الشجاعة بالرأي والقدرة على الاجتهاد ستجعلنا نتجاوز هذه الإشكاليات بما يضمن ديمومة الثابت، أي بقاء الشريعة، خصوصا أن المذهب الحنبلي هو أكثر المذاهب تشجيعا وانفتاحا على الاجتهاد. في الكتاب وجبة فكرية متنوعة، وربما هذه المقالات الثلاثة ليست سوى إطلالة سريعة على بعض الجوانب المهمة التي طرحها المؤلف، وهناك جوانب عديدة تخص مكونات الدولة وتاريخها، حيث وقف بتوسع عند الخصوصية السعودية وأبرز مكوناتها الأساسية التي حفظت الدولة في مسيرتها الطويلة. كما شرح كيف تطورت «ذهنية الحكم» عبر التجارب القاسية والمرة التي واجهت الدولة السعودية في مراحلها الثلاث، وقدم بالأدلة والشواهد ضرورة المحافظة على الموروث الذي بين أيدينا، وهو موروث صنعه الشعب السعودي وحكامه. وكما ذكرت في أول المقال، الأمير تركي يقدم هذا الكتاب كمساهمة فكرية وك«مشروع وطني للحوار والنقاش» حول ضرورات التغيير القائم على الثوابت، وعلى الموروث، يقول: «المأمول أن يحيي هذا الكتاب نقاشا تتجمع فيه قدرات ومشاركات أبناء هذا الوطن والمالكين الحقيقيين لهذا الموروث، كي نتلمس جميعا تطوير خطة وأساليب للعودة إلى مكتسبات هذا الموروث والحفاظ عليها والبناء عليها». هذه فعلا تتطلب الحوار والنقاش الهادئ الموضوعي الذي يستهدف نقل بلادنا إلى حقبة مهمة في مسيرة التقدم البشري. الذي يعرف الأمير تركي بن عبدالله بن عبدالرحمن، ويعرف سعة ثقافته وتأهيله العلمي، وتجربته في الحياة، وسعة اطلاعه وانفتاحه الذهني وتواضعه وسعة صدره للحوار والنقاش المتنوع المشارب والاتجاهات سوف يقدر الجهد البحثي المبذول في الكتاب، وأيضا، وبكل التأكيد، سوف يتفهم صدق وجراءة الطرح وإطلالته القلقة على احتمالات وتحديات مستقبل بلادنا.