في لقاء ماتع مع الشيخ عبدالعزيز الطريفي تحدث وأفاض في أن العلماء هم ورثة الأنبياء؛ حيث ورثوا العلم والدور.. العلم بالله وبشرعه المنزل والقيام بدور هداية الناس إليه ودلالتهم عليه. هنا أناقش تحديدًا دور العلماء في هذا العصر والمقصود بهداية الناس ودلالتهم وموضع العالِم في السياق الكلي للأمة، مطوّفًا حول التعليم الشرعي وآلياته ووسائله. بعبارة أخرى أناقش قضيّة صناعة العلماء. ثمة سؤال ملحٌّ يطرحه العامة والمثقفون في طول الشارع الإسلامي وعرضه عن دور العالم الشرعي وموقفه تقريبًا من كل شيء، وقبل أن أبدأ محاولتي الإجابة عن هذا السؤال، أود أن أسأل سؤالاً تعريفيًا يحدد ماهية (العالم) الشرعي. لدينا عدد من الأوصاف والصبغات التي تساق وتطلق بين حين وآخر على أناس انخرطوا في الدراسة الشرعية تبدأ عند الإمام والشيخ والواعظ والخطيب والداعية والمفتي والحافظ والقاضي والعالم ولا تنتهي بصيغ أكثر مبالغة وتقديرًا؛ مثل الجهبذ والمحقق والعلامة وشيخ الإسلام وحجة الإسلام .. إلخ. ثم هناك أوصاف أكثر تخصيصًا كالفرائضي والفقيه (الحنبلي، أوالمالكي، أوالشافعي، أو الحنفي) والمحدث والأصولي وهكذا. فأي وصف هو المقصود هنا والمنوط به الدور في وراثة الأنبياء؟ بالطبع نادرون في التاريخ الإسلامي هم في الحقيقة مَن يجمع هذه الأوصاف أو أكثرها، لكنَّ كثيرًا جدًا ممن يوصف في زماننا بالداعية والخطيب والإمام والشيخ في وصف عام يمكن أن ينطبق على الوعاظ الرسميين كما ينطبق على الرُّقاة! لا شك أن هؤلاء ليسوا هم ورثة الأنبياء مهما سمّتْهم العامة أو وسمتهم الأجهزة الإعلامية بتلك الأسماء والصفات. فأي وصف هو المقصود هنا والمنوط به الدور في وراثة الأنبياء؟ فهل هم الحفاظ المُجيدون أم المفتون الرسميون وغيرُ الرسميين أم القضاة؟ أغلب الظن أنهم ليسوا هؤلاء، ولا هم المتخصصون في جزء خاص من علم الشريعة كالمحدثين والأصوليين والفقهاء على اختلاف مذاهبهم واجتهاداتهم. بل هم العلماء الشموليون ذوو العلم بالشارع قبل علمهم بالشريعة، وذوو النظر الكلي لا الجزئي، وذوو التحقيق وبُعد النظر والتؤدة. بعبارة أخرى العلماء الحكماء. "ومن يؤت الحكمةَ فقد أوتي خيرًا كثيرًا". فالمقصود بالعلماء إذن هم أهلُ العلمِ بالشرع الحنيف، والنظرِ بالواقع المشاهد، والمعرفةِ بالله وخشيته (لا أحد غيره) ف"إنما يخشى الله من عباده العلماء"، ووضع الأمور عمليًا في نصابها، وهم الواعون اللماحون المطلعون على بواطن الأشياء فلا تخدعهم المظاهر ولا مقدماتها. إذا كانت هذه هي أوصاف العلماء المقصودين بوراثة الأنبياء فلا شك أنهم عملة نادرة في كل زمن، يعرفهم قليلٌ في زمانهم بسبب حجاب المعاصرة وكثير من بعدهم بسبب شهادة التاريخ. إن كثيرًا ممن عاش في فترات تاريخية معاصرة لم يكن يرى العالم (وارث الأنبياء) كما يراه اللاحقون سوى بضعة عشر تلميذًا نقلوا إلى الناس بعض علمهم وكثيرًا من حكاياتهم العجيبة، وكيف تعاملوا بشكل مغاير أحيانًا لواقعهم في ذلك الزمن. تأمل حيوات علماء أمثال الإمام أحمد بن حنبل، وسلطان العلماء العز بن عبدالسلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية لتجد أن مسار حياتهم العظيم كان مليئًا بالمثبطين المخذلين المتخاذلين بل الحاسدون الحانقون. ورغم جلالة قدرهم في كتب التاريخ ، فإنه لم يكن لهؤلاء في أزمانهم هذا القدر الكبير من التعظيم والإجلال. بل لقد نبذهم كثيرٌ ممن كان قريبًا منهم (حتى من الفقهاء والمفتين) وحاكوا المؤامرات ضدهم وأوغروا صدور الناس عليهم وشحنوها ببغضائهم ووشوا بهم عند السلاطين. فالمقصود أن حجاب المعاصرة قد يغطي جانبًا كبيرًا بكل ملابساته الزمنية السياسية والاجتماعية، وغيرها على العيون فلا يرون العالم الحق كما هو! لكن السؤال الحقيق بالإجابة الآن: إذا كان هذا هو وصف العلماء ورثة الأنبياء وهؤلاء هم المقصودون فأي شيء استحقوا به هذا وهم قد يغطي عليهم حجاب المعاصرة فلا يراهم الناس كما هم؟ بعبارة أكثر اختصارًا: ما دورهم في حياة الناس؟ وما موقفهم من مجتمعاتهم وهم يحملون تلك النظرة الشمولية؟ وأين يقفون في السياق الاجتماعي، والديني للأمة؟ إن المستقرئ لسِيَرِ أولئك العلماء الأفذاذ النادرين في تاريخ الإسلام يجد أنّ العملَ قرينٌ للعلم في حياتهم، وأن إنتاجهم وتدريسهم وتآليفهم تميل إلى التجديد أكثر بكثير من إعادة إنتاج العلم الشرعي في شكل شروح وتعليقات، وأخيرًا أن نشاطهم العلمي والفكري كان انعكاسًا واضحًا لواقعهم فهم أبناء يومهم ولحظتهم ولم يكن من عادتهم التعلّق بسياقات تاريخية محددة. تلك أوصاف ثلاثة مهمة تلخّص دور ورثة الأنبياء وموقفهم من الأحداث باختلافها في مجتمعاتهم. أما شخصياتهم فتختلف لكنهم في الغالب أهلُ سجيّة، لا يتكلفون في اللباس ولا في الكلام، ولا في الطعام، وربما خالفوا أهل زمانهم في ذلك. كما أنهم رغم هيبة تعتلي حضورهم أهلُ تواضع جم وألفة سابغة. ورثةُ الأنبياء أيها السادة لا يحبسون أنفسهم في مساجدهم التي يرتادونها ومكاتبهم أو مكتباتهم أو سواريهم التي يعلّمون فيها تلاميذهم. بل إن العطاء المعرفي لديهم على رغم كثرة مريديهم وطلابهم لم يكن يومًا مرتبطًا بوجود التلاميذ، ولا موصولاً بالأتباع والجماهير. تجدهم دائمًا في مواطن التطبيق كما هم في أماكن التنظير. ولذلك، فكثير ما يقعون في خلاف مع نظرائهم أو مع الساسة في أزمانهم. ولأجل ذلك أيضًا فقد نزلوا السجون قليلاً أو كثيرًا، وهاجروا البلدان قصيرًا أو طويلاً، وربما بقوا في بيوتهم إكراهًا أو حُصروا في أوطانهم إجبارًا. كان يسعُ العز ابن عبدالسلام أن يبقى في مسجده يخطب ويحاضر في تفاصيل ودقائق وخلافات وشقائق فقهية، أو يكتفي بمجلس القضاء بين الناس، أو يقتعد بيتَه يكتب كتبه ويؤلف في الفقه الشافعي لعصور قادمة، لكنه آثر أن يعترضَ على الملك الأيوبي في دمشق فُنفي إلى الخارج. ذهب إلى مصر وجلس للقضاء وأحسن الملك الأيوبي الآخر له الوفادة والضيافة، فتم له كل خير إلا أنه وقف في وجه الملك وأصرّ أن يبيع الأمراء المماليك؛ لأنهم لا يتصرفون بأنفسهم وهم مملوكون حتى سُمّي بائع الملوك فطرده الملك من مصر وخرج فخرج معه العلماء العاملون الناصحون، حتى خشي الملك الأيوبي من العاقبة وأسرع في إثره يدعوه إلى أن يفعل ما يرى، فرجع العز بن عبدالسلام ونادى على الأمراء المماليك في السوق يبيعهم! إنه ابن عصره يعيش فيه ويتفاعل معه ويشارك في صناعته ويتأثر ويؤثر في تحوّلاته. لقد خرج بنفسه في حرب التتار يجمع الأموال للجهاد ليس بتكليف من الوالي أو الملك! بل وقف مرة بعد مرة في وجه السلطة، ورفض أن يُجمعَ مال المسلمين الضعفاء، قبل أن يُجمع المال أولاً من بيوت التجار والأمراء وشدد على أن يُفرغ بيت المال، ثم يأتي دور إنفاق عامة المسلمين. كان سلطانُ العلماء قريبًا للناس مشاركًا لهم في آمالهم وآلامهم، وهكذا هم ورثة الأنبياء. ورثةُ الأنبياء أيها الأعزاء أصحابُ تجديد مستمر، مهمتهم تحمل نقلة توعوية، تصادمُ ربما معايير الثقافة الخاطئة البالية، وأسمال العِلم الزائف. وهُم في دروسهم وتآليفهم وأفكارهم أبناءُ عصرهم يحلون مشاكله ويحاججون أهله بالدليل والبرهان. إن موسى عليه السلام لم يأتِ قومه ليناقش أفكار قوم نوح عليه السلام، بل دعا قومه المصريين بما يعرفون وناقشهم بما يفهمون، وكذلك كل وريث لهم من العلماء. إن التشقيق والتعليق والإعادة والتطويل والشرح والتنقيح والزيادة والتهميش والتقريظ والتقديم والتهذيب والتقريب ليس من عاداتهم ولا طريقتهم في التأليف. بل تجد أغلب ما لديهم فتاوى خاصة بأهل زمانهم، ومحاججة فكرية لأهل عصرهم، وتجديد علمي وطرح فكري مختلف. وليس يحضر هنا مثلُ ابن تيمية رحمه الله وفتاواه الشهيرة ورسائله كالعقيدة الواسطية والحموية والتدمرية ومؤلفاته العظيمة كالرد على المنطقيين ومنهاج السنة النبوية واقتضاء الصراط المستقيم وغيرها. تأمل كيف لا يجد الحنابلةُ في ابن تيمية على سَعة علمه وشهرته الكبرى كما يجدون في جدّه أبي البركات رحمهما الله في ما يتعلق بالمذهب الحنبلي. إن الجدّ مجتهد مطلق وعالِمٌ حنبلي كبير غاص في أعماق المذهب وقنواته غير أنّ الحفيدَ الأشهر موسوعي متبحرٌ شمولي المعرفة، وهكذا هو وريثُ الأنبياء. ورثة الأنبياء أيها الأصدقاء لا ترهبهم سطوةُ الرأي السائد، ولا تصرفهم عن توجههم رغبةُ الجماهير، ولا تغيّر آراءَهم الضغوطُ الواقعية. وإنّ سيرةَ ابن تيمية رحمه الله كلَّها شاهدةٌ على أن ورثة الأنبياء هم أبناء لحظتهم التاريخية، فهاهو يخرج لجهاد المغول، ويلتقي السلطان غازان في جملة أعيان دمشق، ويُسجن مراتٍ عديدة بسبب آرائه الفقهية والسياسية. ثم هاهو يختصر سيرته العظيمة في قوله "أنا رجل ملة لا رجل دولة". تلك هي أدوار ورثة الأنبياء. فدورهم الاجتماعي العيشُ مع الناس ومخالطتهم والصبرُ على أذاهم. ودورهم السياسي الوقوفُ فعلاً في صف الحق أينما كان ومجابهةُ الظالم أياً كان، والأخذُ على يده بالقول والعمل. ودورهم الفكري توعيةُ الناس، وتبصيرُهم بأصول الشريعة وحثهم على الحفاظ عليها وعلى إقامة العدل ورفع الظلم، وتجدهم في الصفوف الأول في محاربة الجهل ولو كان شائعًا ومقارعة المنكر المعرفي ولو كان سائدًا. أما دورهم الشرعي فتقديمُ الحلول الشرعية لمشاكل الناس العصرية، وتجديدُ إيمان الناس بقوة معتقدهم وصلاحيته التي لا تنتهي بزمان ولا تقف عند مكان. إنهم متواضعون للجميع، لكنهم أصحابُ هيبة ومكانة، وأهلُ رسالة لا يتنازلون عنها، ولو كلفهم ذلك الأكلاف الباهظة. والسؤال الآن: كيف يمكن بناء جيل من هؤلاء العلماء ورثةِ الأنبياء؟ إن بناء هذا الجيل ينطلق بالتأكيد من تربية جيل من طلاب العلم ليتصفوا بأوصاف ورثة الأنبياء، فيحمل واحدهم رؤية شمولية ووعيًا عميقًا إلى جانب التمكن من فرع أو فروع من العلم الشرعي والعلم بأدواته. وتفصيلاً يمكن أن تشتمل صناعة ورثة الأنبياء على أربعة محاور كما يلي: أولها متعلق بالتعليم وطرائقه والاستفادة من الوسائل الحديثة والتقنيات المتطورة في التعليم عمومًا لتدخل في التعليم الشرعي خصوصًا. ومن ضمن ذلك الإفادة من تنوع طرق التعليم لا وسائله فقط في التركيز على الاستنباط والاستدلال والاستنتاج والمحاججة وإثارة التفكير والنقاش، وفي هذا تدريب على الاختلاف ووسائل إدارته والتعامل مع المخالفين فكريًا وفقهيًا وعقديًا. الدرس الشرعي بصفته التقليدية في أغلب بلدان العالم الإسلامي يجب أن يخفّف كثيرًا من الحفظ والترديد وسرد الأقوال المتعارضة في أقوال المذهب الواحد أو المذاهب المختلفة، فهذه كلها ولله الحمد محفوظة الآن في وسائل تقنية عصرية يسهل استرجاعها واستدعاؤها من أي مكان للمختصين. إنما المطلوب في صناعة العلماء أن يركّز التدريس الشرعي بشكل أكبر على طريقة التعامل مع هذه المعلومات والآراء والأدلة التي تملأ خزائن التراث الشرعي لا مجرد استرجاعها واستدعائها، ولن يكون هذا بغير التمهيد بدراسة علوم الآلة وأهمها اللغة العربية، وعلومها وأصول الفقه وأدواته. ثانيها أن يظل طالب العلم الشرعي رجلَ عامة وألا يتحوّل في أي وقت من الأوقات إلى رجل خاصة. إن على طالب العلم أن يبقى على اتصال بالمجتمع ومشكلاته الحقيقية بأنواعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ودروس الفقه باختلاف عمقها وتخصصها منطبقة لديه على حياته ومتصلة بواقعه. طالب العلم يعلم بشكل عام على الأقل أطروحة الاقتصاد الإسلامي ومدى قربها وبعدها من الاقتصاد العالمي وهو إن كان متخصصًا على اطلاع شبه تفصيلي بالمعاملات المالية وتكييفها شرعًا لا واقفًا نظريًا على مسألتي المنابذة والملامسة! إنه رجل عامة يتفهّم همومَ الناس اليومية ومعاشهم وحاجاتهم وطريقة حياتهم وعلاقاتهم وعاداتهم وأعرافهم الاجتماعية. وهو يغشى مجالسهم العادية ويعرف هِجّيراهم وشكواهم، كما يعرف ما ينقصهم من حقوق سياسية ولا يحاول تكييف هذا النقص شرعًا! بل حتى في طلب العلم الشرعي ذاته لا مجال لديه للدروس الخاصة وللطلاب الخاصين! ثالثها أن يتربى طالب العلم في المحاضن الشرعية على أن يبقى رجل أمة لا رجل دولة. فإذا كتب الله له شأنًا في العلم الشرعي فإذا هو مرفوع به، لا مخفوض بمنصب سياسي أو وظيفة يُسْتَجَرُّ بها منه ما يطيق وما لا يطيق من أجل لقمة عيشه. ينبغي ألا يكون لدى العالم الشرعي أبواب وحُجّاب يمنعون دهماء الناس وبسطاءهم وعامتهم، فيما يسمحون لكبارهم ووزرائهم وخاصتهم بالدخول. ليس العالمُ الشرعي أمين مجلس ولا كاتب وزارة ولا مفتيًا عامًا ولا رسميًا ولا غيره. أما السلك القضائي فطريق مشى عليه الأولون والآخرون من العلماء ما لم يكن القضاء برمته مطية الدولة (جائرة كانت أو عادلة)، فإن كان القاضي ونظام القضاء غير مستقل ولا جزءًا بائنًا من النظام فليس مكانًا لوارث الأنبياء. وعليه أن يسعى جاهدًا إلى الاستقلال المالي عن كل منصب. إنه رجل أمة لا رجل دولة. رابع هذه المحاور وأهمها أن تكون لغة العالم الشرعي سهلة وأطروحته ميسرة ومجلسه ودروسه ومحاضراته وخطبه ونشاطه العلمي يتركز غالبًا (وليس كليًا) في مخاطبة الجمهور عن كبريات الأمور. ومن هنا فإن صناعة العالم الشرعي تزرع فيه الابتعاد قدر الإمكان عن التشقيقات الفقهية والاختلافات الجزئية والمذهبية وتشجّع فيه نقاش الأفكار المطروحة من حوله أكثر من نقاش الأفكار التاريخية لأنها منفصلة عن واقعه، وأكثرمن نقاش الأشخاص الذين طرحوها؛ لأن الأشخاص يأتون ويذهبون والفكر يبقى. اللغة ذاتها لا تحمل مصطلحات فقهية غريبة ولا علمية بحتة ولاتخاطب نخبة بذاتها من الناس. إنّ البناء العلمي والتربوي لوارث الأنبياء المستقبلي يجب أن يضمن ألا يكون عالمَ الزوايا والتكايا والقنوات والجزئيات بل عالِمَ المسار الأكبر، والقضية الأهم والبحر اللجي الخضم. إنه لا يتحدث عن عدة المطلقة ولا عن زكاة الحلي ولا عن تحريك الأصبع في التشهد فيما المجتمع يخوض حربًا فكرية ضد مبادئه العقدية أو حربًا حقيقية ضد وجوده وكينونته. على صانعي العلماء أن ينتبهوا إلى أن العلم نقطة كبرها الجهال أو كثّرَها الجاهلون كما روي عن علي رضي الله عنه وأن الشأن في التوعية والتثقيف ومناقشة المسائل المستجدة والعصرية لا في الشرح والزيادة على آلاف الكتب والتصانيف والفتاوى الشرعية. إن عليهم أن يدركوا أن الملمح الأهم في سير الأنبياء الذين هم ورثتهم هو إنقاذُ أممهم من الجهل والكفر والشرك وتصحيحُ أفكارهم وعقائدهم ونقلُهم من عبادة العباد (سواء كان المعبود من الحكام أو الصلحاء الأتقياء أو الوجهاء الأثرياء) إلى عبادة رب العباد وحده لا شريك له، وفي هذا الملمح تطبيقات سياسية وعقدية وفكرية وفقهية كثيرة. إنني كثيرًا ما أتساءل: ما الفائدة من التعليم الشرعي للعامة إذا كانت الأسئلة تظل تدور حول قصات الشعر وتلوينه، وأحكام سجود السهو، وتنفس الغبار والبخور للصائم؟ ويظل العلماء (المفتون) يجيبون ويعيدون الجواب في أمثالها ويشجعون ذلك . ألا يمكن وضع كل هذه الأسئلة الدقيقة المملة في دليل واحد على موقع دار الإفتاء أو المجمع الفقهي على الشبكة العالمية، أو على شريط قناة من القنوات أو على هاتف بالرد الآلي.. إلى آخر تلك الوسائل، ليتفرّغ المفتون (إذا كانوا فعلاً يريدون ذلك) إلى بحث المسائل الشائكة وتكوين اتحاد واحد للعالم الإسلامي كله يضم علماء من أقصى شرق أندونيسيا إلى أقصى غرب أميركا يبحثون فيه البدائل والحلول (لا التحايلات) الاقتصادية والإجابات السياسية في موقف الأمة مما يدور حولها من أحداث عظمى وحول موقف الشريعة من الأنظمة السياسية والشكل السياسي المقبول شرعًا وإجابات الشريعة على الأسئلة الإلحادية وفقه المجتمعات المسلمة في الدول غير المسلمة، إلى غير ذلك من الأسئلة الملحة والضرورية؟ أليس هذا هو دور الأنبياء وهذا هو إرثهم؟ هداية الناس في حالك الظلمات، ودلالتهم إلى بناء سياسي واقتصادي واجتماعي ولو على مستوى التنظير فقط على الأقل؟ إن التبيان للناس الذي ذكره الله تعالى ليس محدودًا ولا مقصورًا على حفظ النصوص وإعادة تلاوتها في برامج الإفتاء الفضائية! أين يبقى دور العالم إذا كل همه منذ أن يصبح إلى أن يمسي وهو يرد على مسائل من نوع المسح على الخفين وقصر صلاة المسافر والجمع في المطر؟ إن هذا ما أسميه الانشغال أو الاشتغال بالمساحات الآمنة، حيث يعيد المفتي وطالب العلم كلامًا مكرورًا أو يبيع بلغة السوق منتجًا رائجًا شهيرًا. فيأمن الردود والانتقاد والشكوى والحجر والسجن والتضييق كما يأمن هو إلى نفسه فلا يثيرها أي شيء، كأنما هو الآلة الناسخة التي تأخذ صفحات الكتاب المجلد وتعيدها إليك صفحات محررة! بالطبع ليس الهدف الأولي ولا النهائي من "صناعة العلماء" تحويلُ طلاب العلم كلهم إلى ورثة الأنبياء المتصفين بهذه الأوصاف التي ذكرت هنا، فهذا شأن خارج عن المعقول والطبيعي والواقعي لكون اختلاف الدرجات والأفهام والعقول من طبيعة البشر. لكن يمكن انتخاب جيل من طلاب العلم القادرين على حمل هذه الأمانة في العالم الإسلامي والمؤهلين للاتصاف بهذا الوصف الجليل، والقيام بهذا الدور العظيم فيحملوا لقب "ورثة الأنبياء" بحقه وأمانته وعظم رسالته.