نواصل اليوم الحديث حول كتاب الأمير تركي بن عبدالله بن عبدالرحمن (السعودية: الموروث.. والمستقبل، التغيير الذي يُعزِّز البقاء)، توزيع الفرات للنشر. في الكتاب وقفة مهمة مع (الوهابية) فقد تناولها المؤلف بالتحليل الموضوعي الذي أرى أنه يقدِّم لنا مادة علمية تساعد في الرد على مَن يطعن في بلادنا، ويريد أن يخترع مذهبًا إسلاميًّا مستقلًا اسمه الوهابية. الأمير تركي وقف عند هذه الدعوة الإسلامية التي استهدفت تجديد الثوابت، وأبرز في مسيرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، يرحمه الله، ما ينفي عنه الغلو والتطرف، فقد درس على جميع المذاهب، وسافر كثيرًا بحثًا عن التنوُّع في العلم والمعرفة. وأتاح له سفره الدراسة على علماء ومشايخ من مختلف المذاهب، فقد درس وتتلمذ على مشايخ في الحجاز، والأحساء وغيرهما، ويتوسَّع المؤلف في تقديم الشواهد التي تؤكد حيوية الشيخ محمد بن عبدالوهاب وانفتاحه وسعيه للحوار. يقول: (مَن ينظر إلى تاريخ هذا الرجل (الشيخ محمد)، مع ما له من قدرات شخصية، فإنه يرى أنه أُعِدَّ جيدًا لممارسة دور تاريخي مكَّنته ظروف وأحوال الناس في عصره من أن يؤديه. هذا الرجل الذي تُلصق به وبحركته تُهَم جسيمة هنا أو هناك دونما تمحيص وإثبات، استطاع، مع مناصريه بالطبع، أن يأتي بما يُحقق وحدة، وأن يجمع الشتات، ويُغيِّر أحوال الناس المعيشية من سيئ إلى أفضل، وأن يُغيِّر واقعه وأهله ووطنه، بصورة صارخة وجريئة، إلى واقع جديد لا يمكن مقارنته بسابقه). الجانب المهم الذي وقف عنده المؤلف يخصُّ الجانب السياسي لحياة الشيخ محمد، فقد أوضح أن الشيخ انطلق بدعوته من (رؤية شاملة وضخمة وديناميكية) تتطلع إلى إقامة كيان دولة موحَّدة على أساس الشريعة الإسلامية، تفرض التغيير وتحقق الأمن، وتلمُّ الشمل، وتعود بالإسلام وممارساته إلى صدر الإسلام الأول. هذه الرؤية الكبيرة، وما تتطلع إليه من غايات وأهداف إنسانية، هي التي جعلت الشيخ في نهاية حياته يبتعد عن المشاركة في إدارة الدولة بعدما اتضح أن رؤيته وما يتطلع إليه قد تحققا. إن هذا الموقف من الشيخ المبني على فهم الدين الإسلامي، وفهم ضرورات ومتطلبات الدولة وإدارتها، وإدراكه أن الحاكم يحتاج المساحة التي يتحرَّك فيها لإدارة الدولة وتحقيق مصالحها، هذا الفهم يقدِّم الدليل على سلامة النهج الذي سار عليه علماء بلادنا، فقد تَرَكُوا أمور الدولة لمن هم الأعرف بشؤونها، ولم يسعوا خلف السياسة، ووقوف المؤلف عند هذا الجانب مهم الآن، وربما يحتاج وقفات من باحثين ومختصين لدراسته وإيضاحه حتى تتأكد الأجيال الجديدة من أن العلاقة المثالية بين ضرورات الشريعة واعتبارات السياسة ظلت ضمن ثوابت الدولة منذ قيام الدولة السعودية الأولى، وستبقى في العقود القائمة، بحول الله. طبعًا هذه العلاقة ربما تحتاج استلهام حيوية الدعوة في بداياتها وشموليتها وكبر أهدافها، لكي تكون مرتكز الأمان لبلادنا، فتطبيق الشريعة في القرون الثلاثة الماضية تطبيق يختلف عما طبَّقته العديد من الدول الإسلامية، وحتى يستمر تطبيق الشريعة متميزًا ومستوعبًا لاحتياجات مجتمعنا وضرورات الدولة المعاصرة، فهذا التطبيق يحتاج رؤية وعزمًا جديدًا من العلماء والمفكرين لإثبات أن الشريعة سوف تبقى صالحة لكل زمان ومكان، وهذا ما سوف نتناوله في المقال القادم.