لم تعد مهمة الإعلان التجاري تقتصر على الترويج للسلع والخدمات، بل تطورت بمختلف الصيغ الإبداعية لتبيع أساليب الحياة، حيث أرست منظومة من القيم والمعايير التي تشكل مرجعيات في السلوك البشري، وذلك من خلال اللعب على متوالية من الرموز والممارسات والموضوعات والسلوكات التي تعادل ما تنتجه الثقافات، بمعنى أن عقول الإعلان التجاري صارت هي المسؤولة عن إنتاج النماذج الفكرية والأخلاقية والاجتماعية وحتى المخيالية لإنسان اللحظة، وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تصديها لفكرة تأطير الصور الحاملة للمعنى الحياتي، وبناء ثقافة استهلاكية يومية هي التي تحدد معالم الشخصية واهتماماتها والجهد المبذول لتوطينها في أذهان الآخرين. هكذا تحول الإعلان التجاري إلى مضخة هائلة للصور المثالية المراد تثبيتها في المشهد الحياتي، أي تشكيل أنماط التفكير والسلوك للإنسان المعاصر، وذلك داخل مدار ضاغط هو بمثابة الثقافة المهيمنة الناظمة لإيقاع الحياة ومشهديتها، حيث يمكن أن يفصح مظهر الانسان وممارساته وملبوساته ومأكولاته وأماكن ووسائل رفاهيته عن مدى اقترانه بالحداثة والمسافة التي قطعها بعيداً عن التقاليد والرجعية والتزمت. فتلك هي العلامات الكامنة في الاستعمالات اليومية التي تعكس اللعبة الثقافية، التي تولّد بدورها المعنى والدور الاجتماعي للفرد. وذلك من خلال الصورة التي يبدو عليها بمقتضى ما تمليه اشتراطات الاعلان. ذلك يعني أن السلعة أو المنتج صارت له وظيفته الاجتماعية. على اعتبار أن الحياة ذاتها صارت متوالية من الصور والقيم والدلالات التي يلتقطها الإعلان التجاري ويعيد إنتاجها وتوجيهها. بحيث لم تعد هنالك سلعة أو قيمة محايدة، بقدر ما تشكلت قيمة ثقافية اجتماعية يتم التعبير عنها من خلال الاستهلاك. وهكذا يكتسب المنتج قيمته الدلالية وأثره الاجتماعي، بمعنى أن الإعلان التجاري صار معنياً ببيع الأفكار عبر ترويجه للسلع، حيث تحول كل ما يعرض عبر وسائل الإعلان باختلاف اشكالها ومواضعها إلى ثقافة، ولأنه يتواصل مع الذهنية الاجتماعية صار أقرب إلى فكرة القوالب التي تؤدي بالضرورة إلى نشأة الظواهر، وذلك بشكلها المغوي الذي لا يقاوم. الاعلان التجاري اليوم هو بمثابة المزاج العام لانسان اللحظة، وهو الشاهد الفني والموضوعي لما يفكر فيه الانسان ويتوق إليه؛ لأنه إلى جانب المعرفة يعتمد على الفن في توطين مفاهيمه، وما تلك الأشكال الجاذبة التي تقدم بها الملابس والمأكولات والأثاث والسيارات وغيرها من الاستعمالات اليومية إلا نتاج تفكير سوسيو-ثقافي قادر على اختراق المصدات النفسية والاجتماعية والثقافية لأي كائن مهما بلغ من الحصانة والمعرفة. فهو- أي الإعلان التجاري- ليس فن الصورة الساذجة الخالية من المعنى، بل فن الإقناع والإغواء والبرهنة بمختلف الوسائل والإدوات على ما يمكن أن يخلق صورة نموذجية للفرد، صورة الانسان العصري المقبول اجتماعياً، الناجح مهنياً، المعافى صحياً، المثالي جسدياً ومعنوياً. تلك الأوهام أو العوالم المتخيلة التي تضبط إيقاع القيم لا تتحول إلى مادة إعلانية إلا بعد أن تمر بمختبرات ثقافية هي المسؤولة عن ابتداع الصور المحقونة برموز المعاصرة والكمال والتميز. وذلك عبر لغة قادرة على صياغة الأسلوب الحياتي الأمثل، وهو بهذا المعنى يشكل أداة اختراقية للتفكير الإنساني، وذلك بما يختزنه من قدرة على فحص النفس البشرية وتخليق منظومة من السيناريوهات الحالمة، أي اختراق التمثلات الذهنية والأنماط الحياتية، وابتكار نسق قيمي يوازي الواقع بمنظومة من الاغواءات التي تقبل التحوّل إلى أسلوب حياة، وهذا هو هدف الإعلان الجوهري، أي بيع الأساليب الحياتية التي تزرع في الفرد فكرة التملك والاقتناء والاستعراض والشراء. وهكذا تحول الإعلان التجاري إلى لغة تواصل اجتماعي. وذلك من خلال نمذجة الفرد، أو بمعنى أدق تعليبه في إطار حياتي يجعله منظوراً من قبل الآخرين، وهنا يكمن سر التشاوف الاجتماعي الذي يستعرض على الدوام من خلال متعلقات الفرد أو الجماعة، باعتباره رسالة معبرة عن العصرية أو المكانة، إذ يمكن الاستدلال على منزلة امرأة ما من خلال حقيبتها اليدوية أو فستانها، كما يمكن تحديد مكانة رجل من خلال ماركة عطره أو سيارته، فالإعلان لا يتحرك إلا في المنطقة الإيجابية، ولا يقدم إلا النماذج اللافتة في مظهرها، ولذلك نجح في بيع أساليب الحياة عندما جعل من المشاهير حوامل لقيمه، حيث يفرض الجمال حيويته في هذا المدار. ومن هذا المنطلق صار يتحتم على العاملين في حقل الإعلان التجاري إلمامهم بالدراسات السوسيو-أسلوبية، ومعرفتهم العميقة بكل ما يتعلق بالفرد والمجتمع، لأن الرسالة التي ستحرض المستهلكين على الانفاق لا بد أن تكون مبنية على دراية بسلوك الناس ومزاجهم ومشاكلهم ومنسوب ترددهم على المحلات ورغباتهم الدفينة في دواخلهم، لأن كل ما يؤديه الانسان هو ممارسات ثقافية، وهي مادة قابلة للدراسة، وبالتالي التحكم في ميوله، وتجهير الوجبة المعرفية الجمالية من الإرساليات المحقونة بقيم الاستهلاك، فهي إرساليات لا تراعي الموضوعات المطروحة فقط بل صورة «الأنا» كما ينبغي أن يكون عليها الفرد من خلال مقتنياته، أي إيهامه بأنه لا يمتلك أسلوباً حياتياً متفرداً وحسب، بل فلسفة شخصية تقوم على مخادعة الذات، وإقناعه بأن له دوره ووظيفته وتمايزه على الخريطة الاجتماعية.