ظلّت «الخصخصة» حتى عهد قريب أحد المفاهيم التي يحظر الحديث عنها في أية شركة رصينة. وهذا الواقع ينطبق على الوضع في دول مجلس التعاون الخليجي GCC حيث تشكل عائدات البترول وسادة تقاوم الضغوط المالية التي تواجه الحكومات في أمكنة أخرى. وفي ظل وجود تقاليد راسخة بدعم الحكومات للمواطنين وتقديم العون المالي لهم من «المهد إلى اللحد» إلا أن الزمان تغيّر ولم يعد النفط مصدرا للعائدات كما في السابق، مما دعا تلك الحكومات إلى إعادة النظر في الأولويات، وذلك مما جعل مفهوما مثل الخصخصة غير مرغوب فيه. في المملكة العربية السعودية تم تبنّي رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020 الذين يمكن اعتبارهما بحق أدوات تغيير منهجية في المملكة، فالرؤية تركّز على الحاجة إلى زيادة مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد، ما يجعل الخصخصة الآن تحتل مكانا راسخا في أجندة السياسات الاقتصادية، وهنالك خطط بطريقها للتنفيذ في عدة مجالات، نذكر منها ثلاثة وهي: الغذاء (صوامع الغلال) والنقل (المطارات وخدمات المطارات) وخدمات البريد. ويصف البعض نسبة ال 5% المخطط لها للطرح المبدئي العام في شركة أرامكو السعودية باعتبارها خصخصة، رغم أن ذلك كما سوف نرى فيه توسيع لدلالات المفهوم إلى حد ما. كيف تستطيع الحكومات نقل ميزان الاقتصاد من القطاع العام إلى القطاع الخاص؟ هنالك مساران كبيران، أولهما: المنهج الإيجابي، والذي يقضي بنقل مسؤولية البنية التحتية والخدمات إلى مقدمين بالقطاع الخاص من خلال الخصخصة والشراكات العامة- الخاصة (PPPs)، وثانيهما: المنهج السلبي، الذي يقوم على الانسحاب بصورة واسعة من الأنشطة التجارية وتقديم التسهيلات لرجال الأعمال بالقطاع الخاص لسد الفجوة. منهج الخصخصة أكثر المناهج إيجابية؛ فهو يعمل على نقل الأصول والخدمات ذات العلاقة الراهنة إلى القطاع الخاص، وغالبا بشكل دائم. وفي حين أن الشراكات العامة- الخاصة مماثلة لها إلا أنها ليست كالخصخصة تماما، إذ تتضمن بشكل عام قيام القطاع الخاص ببناء وتشغيل أصول جديدة، كما في العادة مشاريع البنية التحتية، ومنها الطرق والمستشفيات ومحطات معالجة المياه، الخ. لأجل معين، بعده يمكن نقلها وإعادتها إلى الحكومة. الميزة الرئيسية لكل منهما، على أية حال أنها تتطلب نقل الإدارة والتحكم في التشغيل والتحكم المالي إلى القطاع الخاص، سواء من خلال بيع عدد كبير من الأسهم للتأثير على قرارات مجلس الإدارة، أو من خلال الامتياز أو اتفاقية المساهمين أو غيرها من الترتيبات التعاقدية. بالنظر عن قرب للخصخصة (سوف أعود إلى الشراكات العامة- الخاصة في مقال آخر مستقبلا)، لماذا تشعر الحكومات على نطاق العالم بالحاجة لها؟ هنالك أسباب متعددة، ولكنها تعود بالأساس إلى حقيقة أن القطاع الخاص يستحضر محاور تفتقر إليها الحكومات التي لديها وبشكل ثابت نطاق من الأهداف لا تتغير في أي نشاط - الأهداف الاقتصادية والاجتماعية لها أولوية بالغالب على (ويمكن أن تتضارب مع) الأهداف المالية. القطاع الخاص له هدف واحد فقط وهو الحصول على عائد من استثماراته، ومما يعنيه ذلك من واقع الممارسة العملية أن موظفي الخدمة المدنية لا يجيدون عمل الأشياء أو بيع البضائع أو تقديم الخدمات التجارية ولا يرون العملاء إلا عوائق غير مريحة تعترض أداء أعمال أكثر أهمية. وفي الواقع، يُترجم التركيز الواضح للمستثمر بالقطاع الخاص إلى عملية محكمة التركيز لترتيب أولويات العمليات الفاعلة من أجل تقديم وتوفير احتياجات ومتطلبات العميل، غير أن نقطة الاعتراض هنا أنها بحاجة إلى أعمال ضغوط سوقية (إما من خلال المنافسين أو التنظيم) لنقل الميزان من المستثمر إلى العميل، وفي النهاية فإن خصخصة الاحتكار هي نفسها احتكار. هذا الضغط التنافسي يجب أن يمتد إلى عملية الخصخصة في حد ذاتها، وأهم طريقتين أكثر استخداما بالغالب في هذا الإطار هما عروض الطرح المبدئي IPOs والمبيعات الاستراتيجية. عروض الطرح المبدئي التي تتضمن بيع الأسهم في سوق الأسهم من خلال المزادات العلنية تناسب بشكل أفضل الأحوال التي تعمل فيها الشركة بأسلوب جيد ولا تحتاج معه إلى استثمارات كبيرة. وأرامكو بوضوح مؤهلة على هذا الأساس. عائدات عروض الطرح المبدئي تؤول إلى المالك الأصلي، وهو في هذه الحالة الحكومة (حصلت المملكة المتحدة على 3,7 مليار دولار كعائدات لعروض الطرح المبدئي لقطاع الكهرباء، بما يشكل دعما كبيرا لخزانة الدولة) ويعتبر البيع الاستراتيجي مناسبا أكثر إذا كان أداء الاقتصاد أدنى من المتوقع وبحاجة إلى استثمار كبير في المعدات والتجهيزات والأشخاص والأنظمة والعمليات، حيث يتضمن عرضا تنافسيا لأسهم يستهدف من خلاله مستثمرا أو اتحادا (consortium) له خبرة ويستطيع تحسين الأداء. إذا ما نوع الأشياء التي يمكن خصخصتها؟ القاعدة يمكن أن تكون «أي شيء يقدم خدمات تجارية، خاصة أية أنشطة يمكن أن يتنافس حولها المقدمون من القطاع الخاص». على مر السنوات، ظلّت تميل الحكومات إلى وضع أو الاستحواذ على الأعمال والأنشطة بجميع أنواعها وكثير منها ليس له كبير علاقة بأعمالها، رغم أنها قد تبدو فكرة جيدة في البداية، فالناس يميلون إلى التركيز على الأنشطة الكبيرة، ففي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين بدأت المملكة المتحدة بالاتصالات، تلتها الكهرباء والغاز والماء. وما يطويه النسيان على الدوام وجود أكثر من 30 مجالا للخصخصة بالمملكة المتحدة؛ ولكن كثيرا منها لم يحظ بالظهور بنفس الطريقة. وتلك المجالات اشتملت على الأبحاث ومختبرات الفحص وشركات النقل والموانئ وشركات تصنيع السيارات ومنتجي الحديد ومناجم الفحم وشركات النفط ومنتجي السكر والشركات المالية (البنوك، وضمانات اعتماد التصدير، والشركات الاستثمارية) والعاملين في الرهانات ووكلاء السفر ومصنعي السلاح وشركات الطيران وصناعة الفضاء ومشغلي المطارات. وفي البلدان الشيوعية السابقة فإن القائمة أطول من ذلك، فكثير من الخدمات تضمنت أنشطة تعتبر أبعد ما تكون عن الأعمال الرئيسية، وهنالك شركة طاقة كنت أقدم لها الاستشارات في يوغوسلافيا السابقة كانت تشغل بيوت ضيافة ومزرعة للأسماك وفريقا لكرة السلة، وهي ليست الوحيدة بهذا الجانب. الدرس الذي يجب أن تنتبه له الحكومة السعودية هو أن عليها نشر شبكة واسعة لتحديد الشركات المرشحة للخصخصة، وليس فقط التركيز على الشركات الكبيرة التي تقدم الخدمات الرفيعة وكبريات المؤسسات الوطنية التي تمتلكها الدولة، فالأنشطة الصغيرة في مجالات هي بالأصل تجارية ومنها: النقل والفنادق والتصنيع وتجارة الجملة وتجارة التجزئة، تعتبر مجالات ناضجة وجاهزة للخصخصة، بل لها مميزات إضافية، تشمل أنه يمكن إنجازها بسرعة أكبر نسبيا، كما أنها أكثر جاذبية للمستثمرين المحليين والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى أنه يمكن للحكومة الخروج كليا من النشاط، بما يجعلها أقل عرضة لاتهامات «إبعاد الاستثمارات الضعيفة أو صغار المستثمرين» بالقطاع الخاص أو «المنافسة غير المتكافئة». لقد ثبت من واقع التجربة في عدد من البلدان أن الخصخصة تحمل معها فوائد حقيقية للشركات التي تتم خصخصتها ولعملائها وللاقتصاد ككل، تشمل: تحسين كفاءة التشغيل والأداء المالي؛ الاستثمار في تجهيزات وأجهزة ومعدات جديدة؛ الوصول إلى «والحصول على» تقنيات جديدة؛ الاستثمار في أنظمة جديدة؛ رفع مستويات مهارات العاملين؛ خفض الأسعار؛ تحسين الجودة وخدمة العميل. بالطبع، من الخطأ الاعتقاد بعدم وجود مثالب، فالمعارضة الكبرى للخصخصة صادرة من الإدارة والموظفين، لانزعاجهم من أن مكاسب الكفاءة تنتج عن خفض الموظفين والمرتبات. ذات مرة افتتحت اجتماعا استمر لساعتين مع موظفين في منشأة تمتلكها الدولة بإحدى بلدان إفريقيا، كانت تحت الخصخصة، قضوا كل الوقت في البحث عن طرق مختلفة لطرح سؤالين هما نفس السؤالين، الأول: هل سأفقد وظيفتي؟، والثاني: هل سأكسب مالا أكثر؟ أحيانا مثل هذه المخاوف لا يوجد ما يبررها، وفي هذه الحالات فإن الحكومة غالبا ما تقدم شبكة أمان لدرء العواصف. هذا الأمر قد لا يكون مهما في المملكة العربية السعودية حيث يشكل الموظفون الأجانب بالغالب صمام الأمان الذي يعطي المستثمرين المرونة الكافية عند ما تدعو الحاجة إلى التخفيضات. وفي حين أن الخصخصة يصحبها انفتاح في السوق، فإن واقع الحال بالغالب هو أنه حتى مع خفض عدد العاملين في الشركة التي تمت خصخصتها، يتزايد مجمل التوظيف بدخول شركات جديدة إلى السوق، ويتزايد الطلب بشدة على الموظفين الفنيين المهرة من أصحاب الخبرات بما يؤدي إلى تحسين النتائج بالعموم، ولذلك يعتبر الاتصال بالحكومة والموظفين وعامة الجمهور المفتاح لضمان تحقيق الانتقال السلس.