جاء في بيان وزارة المالية عن الميزانية جملة من الإصلاحات الهيكلية والاقتصادية، كان من بينها التوجه للخصخصة. وفي السياق ذاته قال معالي وزير الاقتصاد والتخطيط خلال لقاء له مع (قناة العربية) إن الوزارة قامت بدراسة 146 جهة وخدمة، تم تحديد الأولويات للخصخصة ل26 منها، التي سيتم تناولها بشكل تفصيلي هذا العام. وأشار إلى أن الخصخصة تهدف لتحسين جودة المنشآت من خلال تقديم جودة وكفاءة عالية للخدمات، وتقليل التكاليف، وتفعيل أسلوب المراقبة. وبداية تعددت تعريفات الخصخصة، لكن يبقى أبرزها: «نقل ملكية وإدارة نشاط اقتصادي ما إلى القطاع الخاص، إما كلياً أو جزئياً». وقد لا تكون الخصخصة مفهوماً عالمياً حديثاً؛ إذ يوثق التاريخ أن نيويورك أول من بدأت بها من خلال منح شركة للنظافة إدارة وتشغيل هذه الخدمة في العام 1676م، بينما يعد آدم سميث أول من نادى بالحرية الاقتصادية التي تعد الخصخصة جزءاً أصيلاً منها، إلا أن سبعينيات القرن الماضي شهدت الفورة الواسعة بالاتجاه للخصخصة، وكانت تجربة بريطانياوفرنسا كبيرة من حيث الطريقة التي اختارتها حكومات هاتين الدولتين بالنظام الذي اتبع في ثمانينيات القرن الماضي من حيث اتباع «الانتقائية والتدرج»، وحققتا نجاحاً ملهماً لبقية الدول بذلك، وفي الوقت نفسه فشلت التجارب بروسيا ودول نامية بسبب اتباع طرق لم تكن مدروسة ومتسرعة. أما في المملكة فسبق أن طُبقت على قطاع الاتصالات، وحتى بالموانئ، وغيرهما، لكن الطرح المتجدد حالياً للتوسع فيها يعد مهماً؛ لأنه سيأتي ضمن سياق خطة برنامج التحول الوطني الكبيرة التي تشمل جوانب كثيرة من أجل النهوض بالاقتصاد؛ ليصبح أكثر كفاءة واستدامة بالنمو؛ ولذلك فإن التوجهات القادمة للخصخصة لا بد أن تكون واسعة، وتشمل قطاعات وأنشطة، دأبت الدولة على ملكيتها والتوسع بخدماتها وإدارتها منذ عقود، وهو ما يتضح من تصريح وزير الاقتصاد حول برنامج الخصخصة، فالاستعدادات واضحة بأنها ستكون متسارعة للانطلاق نحوها بشكل مكثف خلال المرحلة القادمة، بداية من هذا العام. وحتى يكون هذا التوجُّه ناجحاً فلا بد أن ننظر لما تم خصخصته إلى الآن. فلنا تجربة بأحد أنواعها، وهو القطاعية، متمثلة بقطاع الاتصالات. وإذا كانت الخدمات تحسنت، والإنفاق الاستثماري كان ضخماً من خلال رخص لشركات تتنافس على تقديم الخدمة، فأيضاً نرى أن الخسائر لحقت بشركتين، هما (زين وعذيب) منذ تأسيسهما حتى الوقت الحالي، بينما أُلغيت رخصة شركة المتكاملة لأسباب نظامية، تتعلق بطريقة تأسيس الشركة، فيما اعتذرت شركة ثالثة ممن رخص لها بخدمات الهاتف الثابت عن الاستمرار لأسباب يقال إن منها أنها لم ترَ جدوى اقتصادية حالياً لكي تقوم بتأسيس خدماتها والاستمرار بالسوق، فيما لا يعرف وضع ومصير الشركات الافتراضية التي رخصت قبل فترة قصيرة؛ ما يعني وبمعزل عن تعداد الأسباب التي نقرؤها من مشهد سلبي بواقع بعض شركات هذا القطاع، سواء كان جزء منها بسبب بيئتها الداخلية أو الخارجية، أن المحصلة لكل هذا الواقع تتطلب إعادة النظر بالجوانب التنظيمية، ليس لقطاع الاتصالات بل لكل قطاع يتم خصخصته، وإنشاء هيئة تشرف على تنظيمه. أي أننا بحاجة لقراءة متأنية للواقع الحالي وللقادم لتحسين مخرجاته. لكن من المهم أن نحدد ماذا نريد من الخصخصة؛ كي لا نقع بالفشل بها مستقبلاً. فلا يخفى على الجهات الحكومية أن الاتجاه لها يعني حرية الأسواق في النهاية، وهذا يتطلب إطاراً تنظيمياً واسعاً، يكفل عدم سيطرة القلة على الخدمات والأنشطة المزمع تطبيق البرنامج عليها، وذلك عبر إعادة هيكلة المؤسسات أو القطاعات المستهدفة، وتخليصها من البيروقراطية، وإزالة كل أوجه الترهل وكل ما أدى إلى الخلل أو الفساد فيها، فلا يمكن لمثل هذه العوامل إذا وجدت بأي مؤسسة أو نشاط أن تساعد على نجاح الخصخصة. كما أن الحفاظ على حقوق العاملين وضمان وظائفهم يُعد مسألة مهمة. وللتغلب عليها فإن بعض التجارب، وخصوصاً ببريطانيا، نجحت من خلال تملك العاملين أسهماً بتلك المؤسسات؛ ليكونوا قوة مؤثرة، تمنع الاستغناء عنهم بسهولة، إضافة لبقاء ملكية الدولة بتلك المؤسسات؛ لتكون عاملاً يحقق أكثر من هدف، منه منع الاستغناء العشوائي عن الموظفين، وكذلك تحقيق عائد من خدمات تلك المؤسسات، بعد أن تتحول لمفهوم العمل الناجح من حيث الإدارة وتحقيق أرباح وكفاءة بالتشغيل، وفق معايير وأنظمة تضمن حقوق كل الأطراف، مع إدراج تلك المؤسسات بالسوق المالية. فلا بد من الأخذ بعين الاعتبار في جانب تعظيم المنفعة للاقتصاد عدم سيطرة الطرف الذي سيستفيد من فتح القطاعات للخصخصة، وهو القطاع الخاص، بأن تتاح له فرصة لتملك أو إدارة نشاط أنفق عليه من أموال الدولة الكثير، ليأتي لكسب فرص على طبق من ذهب. وقد يتولد عن ذلك احتكار من نوع جديد. ففي فرنسا - وهي الدولة التي أُشير لها بنجاح تجربتها على يد شيراك عام 1986م - واجهت منذ سنوات قليلة انتقاداً من خبراء ومؤسسات فرنسية حول التوسع بالخصخصة بقطاعات أو مؤسسات تدر دخلاً كبيراً ورابحة، وهي الدولة المعروفة بأنها تمتلك نموذجاً متقدماً بالإدارة عالمياً. كما أن فتح المجال لشركات «متعددة الجنسيات» لتحصل على حصة بمشروع الخصخصة لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار حسابات عديدة فيه، أولها أنها ستحول جزءاً من الدخل المحلي للخارج، أي أنه باب جديد لتصدير الأموال للخارج، يُضاف لما هو قائم حالياً كحوالات العمالة الوافدة الضخمة عند أكثر من 140 مليار ريال سنوياً، وفاتورة الاستيراد التي بلغت العام الماضي أكثر من 500 مليار ريال. والأخرى أنها قد تطلب تحرير الأسعار، وهو أمر قد يوجد تشوهاً كبيراً بين سعر الخدمات المقدمة ودخل الفرد لصالح الشركات، ويفتح الباب على مشكلة من نوع آخر، ستعيدنا للمربع الأول، بأن تبقى الحكومة متحملة أعباء إضافية؛ حتى يتمكن الفرد من الحصول على الخدمات فيما لو ارتفع سعرها؛ وهو ما قد يخفض من نسبة الطبقة الوسطى بالمجتمع، ويعمق من مشكلة محدودي الدخل بتكاليف المعيشة. ولعل أفضل نموذج يناسب اقتصاد المملكة هو (الانتقائية والتدرج) للقطاعات والخدمات المستهدفة نظراً إلى أن طبيعة الاقتصاد الوطني وإمكانياته يناسبها التأني بهذا الاتجاه بعد تطبيق المعايير المطلوبة أساساً لنجاح هذا التحول. كما أن النظر إلى أهمية تحييد قطاعات عن هذا المشروع مهم بعد تحديدها. ويبدو أن الصحة والتعليم من بين أبرزها، مع إمكانية تطوير برامج مهمة قبل التفكير في تخصيص جزء من خدمات ومرافق القطاعين، كإقرار نظام التأمين الطبي على المواطنين، أو اختيار أجزاء من عمل هذه القطاعات لا تمس المواطن بأي تكلفة، ووضع خطة طويلة الأمد لتطوير تشغيل مثل هذه القطاعات الحساسة والمهمة لكل مواطن وأسرة، إضافة إلى التفكير بطريقة إعادة استثمار الأموال المتحصلة من التخصيص بالاتجاهات التي يحتاج إليها الاقتصاد الوطني بشكل مستمر. الخصخصة تحوُّل كبير، له إيجابيات ومنافع للاقتصاد والمجتمع كبيرة، لا يمكن إنكارها أو إقصاؤها، وبالوقت نفسه هناك سلبيات ضخمة تتولد منها إذا لم تكن الحسابات دقيقة والأنظمة مستوعبة لهذا التحول بحيث تراعي نوعية التخصيص والاحتياج له بشكل دقيق وعميق، ويأخذ مراحل طويلة حتى يتم استيعاب أية سلبيات أو مطبات تتولد عنه. وتبقى المبادرة بيد الحكومة للتدخل عبر توزيع ملكيات المرفق أو الخدمة المخصخصة، والجانب الإشرافي عليه، وضمان تحقيقه منفعة متنوعة، سواء للدولة أو المستفيد منه أو العاملين بالمنشآت المخصصة لتحقيق العدالة لكل الأطراف.