أقام الفقهاء مسائل الفقه استنباطاً من نصوص القرآن والسنَّة، وكانوا يَلْحظون روحَ الشريعة ومقاصدها، فلم يكونوا ظاهريَّةً في فهم النصوص،وهذا ما جعل فِقْهَنا فِقْهاً ذا روحٍ، لا يُبْسَ فيه ولا جمود، سار عليه المسلمون، وبه عالجوا مشكلاتهم الحياتية، وقد راعَتْ الشريعة الإسلاميّة طبائع النفس، فكانت أحكامُها مُتَّسقة مع فطرتهم، لا انعكاساً لأهواء النفس وشهواتها، كما لاحَظَتْ عوائدَ الناس وأعرافهم، وحَمَلَت الألفاظ المحتمَلة على ما تدلُّ عليه اللغة، وتقتضيه الأعراف، وقد ذكر الإمام شهاب الدِّين القَرافيُّ أنَّ الفقيهَ إذا جاءَه مَن يستفتيه مِن غير بَلَدِه، أنَّ الواجب عليه ألا يُجْرِيَ الحكمَ على عوائد بَلَده وأعرافه، بل على عُرْف السائل، وهو كلامٌ غايةٌ في النَّفاسة، ومن عظيم أمْرِ الفقه أنَّ مسائلَه أشبه بفروع شجرة، فمهما كثرت المسائل وتنوَّعت فمرجعها إلى ساقٍ واحدة، فقد نصَّ الفقهاءُ على أنَّ الفقه مَبْنِيٌّ على خمس قواعد، الأولى: الأمور بمقاصدها، والثانية: اليقين لا يُرفع بالشك، والثالثة: الضَّررُ يُزال، والرابعة: المشقَّةُ تَجْلبُ التيسير، والخامسة: العادةُ مُحَكَّمة، ومَن يقرأ فقهَ النوازل، يقف على تراثٍ علميٍّ غزير، ثريٍّ بالنماذج التطبيقية لمعالجة الفقهاء هموم الناس وأحوالهم، فالفقه، وإن حوى نصوصاً ثابتة في عباراتها، غير أنه يَحمل في مضمونه معاني كلّية، وقواعد ضابطة، تنتظم المسائلَ الجزئية، فمهما كثرت الوقائع ومهما جدّت الحوادث، فإن في النصوص القرآنية والحديثية، وفي الأصول والقواعد الفقهية، جواباًَ لكل واقعة تَجِدُّ، والأصل في المفتي ألا يُفتي إلا إذا كان عالماً بالقرآن وتفسيره، وعالماً بالحديث الشريف، وقادراً على استنباط الأحكام الشرعية منهما، غير أنَّ مِن رفق الله بعباده أنَّّه لم يُوجب على جميع الناس أن يَتركوا أعمالهم ليتفرَّغوا لطلب العلم، فغير المتخصِّص، كالمهندس والطبيب وغيرهما، يؤدِّي عباداته بقول مَن يُفتيه ممن يثقُ بعلْمِه، فيسأله عن كيفية الصلاة والزكاة والصيام وغيرها، أما مَن ارتقَى في المعرفة قليلا، وأمْكنه أنْ يُتْقِن مدرسةً من المدارس الفقهية الأربعة المعروفة، فهذا يؤدِّي عباداته آخذاً بما عليه الفتوى في المدرسة التي دَرَسها، وهذا معنى قولنا فلانٌ حنفيٌّ أو مالكي أو شافعي أو حنبلي، فإنْ ارتقَى في العلم، وأمكن أن يرجِّح بين الأقوال، فهذا واجبه أنْ يُرجِّح إنْ كان أهلاً لذلك، وللترجيح والاجتهاد شروطه وضوابطه المبسوطة في كتب أصول الفقه، وهي ليستْ قَيْداً، وإنما شأنُها تنمية المَلَكة الفقهية عند الفقيه، ليسير على طريقٍ واضحة المعالم، تَحول دون الجمود واليُبْس، فضلاً عن الشُّذوذ والشَّطحات التي نعاني وَيْلاتها، فلو سارَ أيُّ عِلمٍ مِن العلوم بغير منهاج لفسدَ، وبيان ذلك أنَّ هذه المدارس الأربعة مساحةٌ للنَّظر والاجتهاد، فهي قائمةٌ على أصول وقواعد، استخرجها مِن النُّصوص أئمةٌ كبارٌ، وتعاقبوا على دراستها وتمحيصها، فبيَّنوا مآخذ الأحكام وعِلَلِها، ليصحَّ البناء عليها، وبسطوا الكلام على طريقة التخريج عليها، وعَنَوا بعرض ما يَجدُّ من الوقائع والأحداث على تلك الأصول والقواعد، فكانوا يُنْزلون الأحكام الفقهية على واقعهم، لأنَّ مِن شروط صحَّة الفتوى وجودَ تطابقٍ بين الواقعة وبين الحكم الذي يُنزل عليها، ويسمُّون هذا: تحقيق المناط، أي ملاحظة الواقع، وربَّما عبَّروا عن ذلك بقولهم: مراعاةُ محلِّ النازلة، ويَعُدُّونه تسعةَ أعشار النَّظر الفقهي، فالوقائع والأحداثَ تتنامَى مع الزمن، فكلَّما نزلتْ نازلةٌ حقَّقوا مَناطَها، أي نزَّلوا حكمَها على الواقع المطابق له، فيُقدِّر المفتِي في الفتوى: الزمانَ والمكانَ والأشخاص، فما يُفتَى به في زمانٍ قد لا يُفتَى به في زمان آخر، لاختلاف المناط، فكانوا يَتطلَّبون النَّظر في الواقعة، لمعرفة طبيعتها وسِماتها وأوصافها، ليَنْزل الحكمُ عليها بتطابقٍ تام، وهذا الذي حالَ دون أنْ تكون أحكام الفقه متناثرةً متنافرة، كالقوانين الوضعية، وكانوا يرون الجمود على المنقولات انحرافاً عن الهَدْي النَّبوي، كما قال الإمام أبوحامد الغزالي رحمه الله، ومِن أظهر الأمثلة على هذا امتناعُ سيِّدِنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن قطع يد السارق عام المجاعة، مراعاةً منه لمحلِّ النازلة، فلم يكن هذا رأيٌ اخترَعه كما يَظنُّ البعض، وإنما هو الحكم الفقهيُّ في زمن المجاعة، لأن الناس في حال المجاعة تغلب عليهم الفاقةُ والضرورة، وهي شُبهةٌ تُسقط الحدَّ، فبهذه الضوابط للفقه تنضبط الأحكام، ويرى الناسُ في الفقه نضارتَه ورونَقَه، وما كان هذا إلا أنَّ الفقهاء على درايةٍ تامَّة بأن ضبط الفقه، هو سرُّ تَطوُّرِه ونَمائه، وهو الحافظ له مِن العبث، وهو الحائل دون الفوضى في القضاء أو الفتوى.