«الحُكْم نتيجةُ الحِكمة، والعِلم ُنتيجةُ المعرفة، فمن لا حِكمةَ له لا حُكْمَ له، ومن لا معرفةَ له لا عِلمَ له» «ابن عربي» يشترك الناس جميعهم، خلاف إشباع حاجاتهم من الغذاء والماء والهواء، في حاجتهم المتأصلة للبحث عن المعرفة. وبغض النظر عن الباعث لديهم للبحث عن المعرفة، سواء أكان لتأمين الغذاء أو الأمن أو معرفة النفس أو الخالق، فإن الناس لديها تعطش فطري لمعرفة ما لا يدركونه، والذي يعتقدون أنه يضيف قيمة لحياتهم. ويبقى التحدي في معرفة أفضل السبل للحصول على المعرفة التي نبحث عنها، أو كيف نتعلم ما لا نعرفه فعليًّا. وربما الأهم من ذلك هو كيف نعرف ما نحتاج إلى أن نتعلمه حقًّا. في عصر اقتصاد المعرفة الذي نعيشه، يبدو أن المعرفة بدأت بشكل متصاعد في الحلول محل القوى التقليدية المحركة للاقتصاد والمتمثّلة بالقوى العاملة، ورأس المال، والموارد الطبيعية. فالمعرفة اليوم تشكل العامل الأساس في النمو الاقتصادي. ويعتبر استخدام المعرفة الآن أمرا حتميًا في جميع جوانب العمل لأي منظمة. وتنقسم المعرفة إلى قسمين: معرفة ظاهرة ومعرفة ضمنية. فالمعرفة الظاهرة هي تلك المعرفة الرسمية المدونة، التي نجدها في أوراق المنظمة وملفاتها وقواعد بياناتها. ونجدها في الكتب وعلى صفحات الإنترنيت. أما المعرفة الضمنية، فغالبًا ما يشار إليها على أنها المهارة والدراية والخبرة الكامنة في كل فرد في المنظمة. وتمثل الأصول غير الملموسة والموارد الفكرية للمنظمات. وتتكون المعرفة الضمنية من النماذج العقلية، والقيم، والمعتقدات، والتصورات، والرؤى، والافتراضات. وهي المعرفة التي تُدرَك دون أن يُعبَّر عنها بشكل علني. وهي المعرفة التي لا نملك كلمات للإفصاح عنها. فهي معرفة تلقائية، لا تتطلب وقتا ولا تفكيرًا. وهي تشبه ركوب الخيل، أو فن الطبخ، أو مهارة الصيد لمن يجيدها. فصاحبها يمارس هذا العمل دون تفكير ويصعب عليه شرحه للناس. وفي الغالب، تمثل المعرفة غير الرسمية في المنظمة، ولا يمكن العثور عليها في الأدلة، أو الكتب، أو قواعد البيانات، أو الأضابير. وفي الوقت نفسه، يصعب تعلم هذه المهارات من خلال القراءة، إذ لا بد من مشاهدة أناس يجيدون هذه المهارات، ومن ثم محاولة تجربتها بأنفسنا. ويعتقد أن نحو 99% مما يقوم به العاملون في أي منظمة مبني على المعرفة. وتمثل المعرفة الضمنية في أقل تقدير 42% من المعرفة في المنظمة، وقد تصل إلى 80%. وقد أكدت الكثير من الأبحاث أن هناك علاقة طردية بين المعرفة الضمنية والأداء التنظيمي. وهذا يدل على أن أداء المنظمات يتأثر بشكل كبير بالمعرفة الضمنية فيها. ولذلك، فإن البعد الضمني للمعرفة يشكل أهمية قصوى، من أجل أن يتحقق نقلها بين الأفراد لبناء القدرات الأساسية للمنظمات. ظهر مصطلح «المعرفة الضمنية» لأول مرة في العام 1958، عندما عرَّفها «مايكل بولياني» الكيميائي الذي تحول إلى فيلسوف، بأنها معرفة الناس للأشياء بما يتجاوز قدرتهم على الحديث عنها. فالناس قد لا تكون على بينة من المعرفة التي تمتلكها، أو كيف يمكن أن تكون تلك المعرفة ذات قيمة للآخرين. وبما أن المعرفة الضمنية مخفية عن المراقبين من الناس، ومن المحتمل أن تكون مجهولة حتى على أصحابها، فإنه يصعب تحديدها وقياسها. وهذه المعرفة مكانها عقول الناس. ولذلك تبرز أهمية الموارد البشرية في أي منظمة، وخاصة ذوي الخبرة منهم. ولأن العاملين في المنظمة هم عرضة لتركها عند انتقالهم لمنظمة أخرى أو تقاعدهم أو وفاتهم، فإن هذه المعرفة ترحل معهم. وهنا تكمن أهمية الحفاظ على المعرفة الضمنية الخاصة بالمنظمة. كان أول من ساهم في استخدام المعرفة الضمنية في مجال «إدارة المعرفة،» هو العالم الياباني «نوناكا.» وإدارة المعرفة هي عملية الحصول على المعرفة وتطويرها والمشاركة بها، واستخدام المعرفة التنظيمية بفعالية لتحقيق الأهداف التنظيمية عن طريق الاستخدام الأمثل للمعرفة. وقد كشف استطلاع للرأي لأكثر من 1600 من المديرين في الولاياتالمتحدة، أن إدارة المعرفة تشمل أربعة مجالات هي: إدارة رأس المال الفكري، مثل حقوق التأليف وبراءات الاختراع والتراخيص، وما إلى ذلك، وجمع وتنظيم وتبادل أصول المنظمة من المعلومات والمعرفة، وخلق بيئات عمل لتبادل ونقل المعرفة بين العاملين، والاستفادة من المعرفة من جميع أصحاب المصلحة لبناء استراتيجيات مبتكرة. ولكن هناك طريقة أخرى للتفكير في المعرفة ودورها في المنظمات. فقد وُجد أن أكثر المنظمات نجاحا في اليابان، قد حققت ذلك لقدرتها على الاستجابة بسرعة للعملاء، وخلق أسواق جديدة، وسرعة تطوير منتجات جديدة، والهيمنة على التقنيات الناشئة. فقد كان سر نجاحها هو نهجها الفريد في إدارة خلق المعرفة الجديدة. ولعل من أهم الطرق للحصول على المعرفة الضمنية هو في تدوينها وتحويلها إلى معرفة ظاهرة من خلال تطوير أنظمة خبيرة. ولكن الحقيقة هي أن المعرفة الضمنية ليست كلها قابلة للتدوين بشكل كامل. ولذلك، يقترح بعض الباحثين استخدام أسلوب رواية القصص من أجل نقل المعرفة، لأن رواية القصص لا تزال واحدة من أبسط الطرق التي اكتشفها الإنسان للتواصل، وأكثرها فعالية. وأكبر دليل على أهمية هذا المنهج، هو ما نراه في القرآن الكريم من كثرة سرد القصص كمنهج لإيصال المعرفة إلى الناس بشكل بسيط وسلس. ولذلك أيضا يبقى أفضل الأساتذة في المدارس والجامعات هم أولئك الذين يستخدمون الأسلوب القصصي في إيصال المعرفة إلى طلابهم، متى مّا كان ذلك مناسبا ومطلوبا.